الزوايا الصوفية في المغرب… إرث يتجدد ورسالة تتجاوز الحدود

الزوايا الصوفية في المغرب… إرث يتجدد ورسالة تتجاوز الحدود
في المغرب، لا تُقاس الزوايا الصوفية بحجم جدرانها ولا بعدد أتباعها، بل بعمق أثرها في النفوس وامتداد رسالتها في الجغرافيا والتاريخ. فهي ليست مجرد أماكن للذكر أو حلقات لتعليم الأوراد، بل جسور تربط بين الماضي والمستقبل، وأدوات ناعمة تدافع عن هوية الوطن وتقدمه إلى العالم في صورة متوازنة تجمع بين الروح والعقل، وبين الأصالة والانفتاح (Cornell, 1998).
منذ قرون، شكّلت هذه الزوايا مدارس للتربية الروحية ومراكز للتعليم الشرعي، لكنها في الوقت نفسه كانت منصات للحوار وحواضن للمبادرات الاجتماعية. في أزمنة الاضطراب، كانت حصنًا للوحدة، وفي فترات الانفتاح، صارت بوابات للعبور نحو الآخر (Abun-Nasr, 1965).
1- التصوف المغربي… هوية روحية راسخة
التصوف في المغرب ليس طارئًا على المشهد الديني، بل هو جزء من ملامح الشخصية المغربية نفسها. يختلط في نسيجه الذكر والفقه، السلوك الأخلاقي والانفتاح الثقافي، مما جعله قادرًا على العبور بين العصور دون أن يفقد جوهره. في ربوع المملكة المغربية، من فاس إلى وادي درعة، ومن الشمال إلى الصحراء الكبرى، تتوزع الزوايا الصوفية التي تشكل شبكة روحانية وثقافية عميقة (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، 2023).
هذه الزوايا لم تقتصر على كونها أماكن للعبادة، بل لعبت دورًا محوريًا في تربية النشء، نشر التصوف، وتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية بين مختلف مناطق المملكة (Cornell, 1998).
2- الأسرة العلوية والزوايا… شراكة التاريخ والروح
منذ أن استقر العلويون في الحكم في القرن السابع عشر، توطدت علاقة خاصة بينهم وبين الزوايا، علاقة تتجاوز السياسة إلى الروح، تقوم على تبادل الدعم والمشروعية (العروي، 1992). الزوايا كانت دائمًا ذراعًا للمصالحة وتثبيت الاستقرار، سواء في مواجهة الفتن الداخلية أو في تعزيز وحدة الصف أمام التحديات الخارجية. وفي المقابل، حظيت هذه المؤسسات برعاية الدولة، دعمًا لأوقافها وأنشطتها وحماية لدورها الاجتماعي (العروي، 2010).
3- تحديات الواقع الراهن
رغم قوتها التاريخية، تواجه الزوايا اليوم امتحان البقاء في زمن سريع الإيقاع، متعدد الأصوات. إذ يكشف تقرير وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية (2023) أن:
– نسبة انخراط الشباب في أنشطتها تراجعت إلى 18% فقط، بعدما كانت تفوق 45% في ثمانينيات القرن الماضي.
– الخطاب المتشدد لبعض التيارات يزاحم رسالتها الوسطية.
– الحضور الرقمي ضعيف، فلا يتجاوز النشاط الفعلي على المنصات الاجتماعية 30% من مجموع الزوايا النشطة.
– التمويل يعتمد في أكثر من 40% من الحالات على أوقاف قديمة لم يتم تطوير استثماراتها.
4- مقارنة بين أبرز الزوايا الصوفية في المغرب
الزاوية | المؤسس / المرجع الروحي | الإنجازات الرئيسية | الانتشار الجغرافي |
القادرية | عبد القادر الجيلاني (العراق) |
نشر الوسطية، دعم التعليم التقليدي، الوساطة |
فاس، مراكش، سوس، الريف |
التجانية | أحمد التيجاني (فاس) |
شبكة ذكر عالمية، توطيد العلاقات مع إفريقيا جنوب الصحراء |
فاس، تافيلالت، إفريقيا الغربية |
الناصرية | محمد بن ناصر الدرعي (تاميغروت) |
مكتبات علمية ضخمة، دعم القوافل التجارية والعلمية |
لجنوب الشرقي، وادي درعة |
الدرقاوية | مولاي العربي الدرقاوي |
إحياء قيم الزهد، مقاومة الاستعمار الفرنسي |
الدرقاوية
الشمال، الريف، جبالة |
الحمدوشية | سيدي أحمد بن حمدوش |
المزج بين الروحانية والفنون الشعبية |
مكناس، جبال زرهون |
الجمية | الشيخ سيدي علي الجمي | الشيخ سيدي علي الجمي
دعم التربية القرآنية، خدمات اجتماعية واسعة |
جهة دكالة عبدة، آسفي، مناطق ساحلية |
5- الدبلوماسية الناعمة… حين تتحول الروح إلى لغة عالمية
في زمن تتشابك فيه الثقافات وتتصاعد فيه المخاوف من الصدام، تمارس الزوايا المغربية نوعًا مختلفًا من الدبلوماسية، بلا سفراء رسميين أو بيانات سياسية، بل برسائل روحية وعمل ميداني. تُعرف هذه الظاهرة باسم القوة الناعمة الروحية، التي أثبتت فعاليتها في تحسين صورة المغرب والإسلام في العالم (Nye, 2004؛ Global Soft Power Index, 2025).
أحد المشاركين السنغاليين في ملتقى التصوف قال: “حين نلتقي في المغرب، نشعر أن الحدود تختفي، وأننا ننتمي لعائلة روحية واحدة” (وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، 2023). أما باحث فرنسي في شؤون الأديان فأكد: “الدبلوماسية الروحية التي تمارسها الزوايا المغربية أكثر تأثيرًا في تحسين صورة الإسلام من آلاف الخطب السياسية” (Cornell, 1998).
ليست الزوايا مجرد إرث ثقافي محفوظ في الكتب، بل طاقة متجددة، قادرة على أن تكون جسرًا بين المغرب والعالم. في داخلها مزيج من الحكمة والصبر، وفي تاريخها رصيد من الثقة، وفي حاضرها فرص لا تزال تنتظر من يحسن استثمارها.
إنها، باختصار، رصيد من القوة الناعمة، إذا أُحسن توظيفه، سيكون أحد أعمدة استقرار المغرب وإشعاعه في القرن الحادي والعشرين.
كما يجب الإشارة إلى أن هناك سلسلة مقالات ستنشر قريبًا، تتناول موضوع الصوفية والسلفية في المغرب وأبعادها السياسية الإقليمية العربية، الإفريقية والعالمية.
– المراجع والمصادر
العروي، عبد الله. (1992). مجمل تاريخ المغرب. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
العروي، عبد الله. (2010). من ديوان السياسة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
Cornell, V. J. (1998). Realm of the Saint: Power and Authority in Moroccan Sufism. Austin: University of Texas Press.
Abun-Nasr, J. M. (1965). The Tijaniyya: A Sufi Order in the Modern World. Oxford: Oxford University Press.
Nye, J. S. (2004). Soft Power: The Means to Success in World Politics. New York: Public Affairs.
Global Soft Power Index. (2025). Global Soft Power Index 2025. London: Brand Finance.
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية. (2023). تقرير حول الزوايا والمؤسسات الدينية في المغرب. الرباط: وزارة الأوقاف.
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار
تعليقات الزوار ( 2 )
مرجع سيساهم في اغناء هذا المقال الرائع سي حفيظ.
“علال الفاسي: التصوف الإسلامي في المغرب، ص: 120”.
أشكرك السي عثمان على اقتراحك القيّم. سأعتمد على هذا المرجع في مقالاتي القادمة، خاصة أنه سيفيدني في الجزء المتعلق بالتصوف المغربي وأبعاده الإصلاحية والتاريخية. يتبع… تحية احترام وتقدير