أقلام حرة

استقلال السلطة القضائية خط أحمر: رسالة دستورية قوية للمشرع المغربي

المحكمة الدستورية ورفض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية: تحليل لأثر ذلك على استقلال القضاء وحماية الحقوق.

المحكمة الدستورية تراقب دستورية مواد مشروع قانون المسطرة المدنية، وتنتصر لمبادئ الأمن القضائي واستقلالية السلطة القضائية الكامل.

  1. مقدمة

يشكل استقلال القضاء، الأمن القضائي، وضمان حقوق الدفاع حقوقًا دستورية أساسية تكرسها دساتير الدول الحديثة، وتُعد ركيزة لا غنى عنها في دولة القانون. وفي المغرب، يكتسي مشروع القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية أهمية بالغة كونه يؤثر بشكل مباشر على سير العدالة. في هذا السياق، يأتي قرار المحكمة الدستورية رقم 255/25 الصادر بتاريخ 4 غشت 2025، ليؤكد الدور الحاسم للمحكمة في ضبط حدود الإصلاح التشريعي حمايةً للدستور ومبادئه.

تسعى هذه الدراسة إلى تحليل القرار الصادر في ضوء أربعة محاور دستورية رئيسية: استقلالية السلطة القضائية، الأمن القضائي، حقوق الدفاع، وحقوق الأفراد، مع استحضار الإطار الدستوري المغربي ومقاربات فقهية مقارنة.

المحور الأول: المساس باستقلالية السلطة القضائية

تعد استقلالية السلطة القضائية من المبادئ الدستورية الجوهرية، التي تؤطرها مواد الفصل 107 من الدستور المغربي، والتي تنص على استقلال القضاء في ممارسة مهامه بعيدا عن أي تدخل من السلطات الأخرى.

– التدخل التنفيذي في عمل القضاء (المادتان 408 و410)

تناول مشروع القانون صلاحيات مُوسعة لوزير العدل تسمح له بإحالة قضايا على محكمة النقض بحجة وجود “تجاوزات” من القضاة. وتعتبر المحكمة هذا الإجراء انتهاكًا صريحًا للاستقلالية القضائية، إذ يُخضع أداء القضاة لرقابة تنفيذية، ويُشكك في حياد القضاء. هذا يتناقض مع المبدأ الدستوري الذي يقر استقلال السلطة القضائية باعتبارها إحدى دعائم التوازن بين السلطات (راجع: المادة 107 من الدستور المغربي، وأحكام المحكمة الدستورية رقم 19/2020).

– الرقمنة تحت وصاية وزارة العدل (المادتان 624 و628)

تخصيص إدارة النظام المعلوماتي القضائي لوزارة العدل يدخل ضمن نطاق تدخل السلطة التنفيذية في جهاز القضاء، خصوصًا في مجال تعيين القضاة وإدارة الإجراءات الرقمية. المحكمة أعتبرت أن هذه الخطوة تنتهك اختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي نص عليه الدستور كهيئة مستقلة تُشرف على شؤون القضاة، بما في ذلك التعيين والترقية، وهو ما يكرس مبدأ الاستقلال المؤسسي للقضاء.

المحور الثاني: المساس بالأمن القضائي

مبدأ الأمن القضائي، المرتبط بقوة الشيء المقضي به، هو من أركان استقرار المنظومة القانونية، ويكفله الفصل 126 من الدستور المغربي، إذ يمنع إعادة النظر في الأحكام النهائية إلا في حالات محددة قانونيًا.

– بطلان الأحكام النهائية دون تحديد (المادة 17)

إعطاء النيابة العامة سلطة طلب بطلان الأحكام النهائية دون ضوابط واضحة يعرض مبدأ قوة الشيء المقضي به للخطر، ويُضعف الثقة في القرارات القضائية، مما يخل بالأمن القضائي ويهدد استقرار المنازعات القضائية.

– ضعف ضمانات التبليغ (المادة 84)

التبليغ عبر أشخاص غير مؤهلين بناءً على مظهرهم فقط دون التأكد من العلاقة القانونية أو السن يخل بحق الأطراف في إعلام قانوني صحيح، ويعرض الإجراءات للطعن، مما يؤثر سلبًا على اليقين القانوني والأمن القضائي.

المحور الثالث: المساس بحقوق الدفاع

تكفل المادة 120 من الدستور مبدأ تكافؤ وسائل الدفاع، الذي يعد حجر الزاوية لضمان المحاكمة العادلة.

– الجلسات عن بعد بدون ضمانات (المادة 90)

السماح بحضور الجلسات عن بعد دون توفير ضمانات تقنية وقانونية لحماية سرية المحادثات ومصداقية التوثيق يهدد حقوق الدفاع، ويجعل من الرقمنة عامل خطر إذا لم تُحاط بضوابط واضحة.

– خرق مبدأ التواجهية (المادتان 107 و364)

حرمان الأطراف من حق التعقيب على مستنتجات المفوض الملكي يقوض مبدأ التواجهية، وهو ما يتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص في تقديم الدفاع.

المحور الرابع: المساس بحقوق الأفراد

حقوق الأفراد في الإجراءات القضائية، خصوصيتهم، وحقهم في إعلام قانوني دقيق تعتبر من المبادئ المحمية دستورياً (الفصل 24 و29 من الدستور المغربي).

– إشكالات التبليغ وخصوصية الأفراد

الاعتماد على طرق تبليغ غير مؤمنة قانونيًا ينطوي على مخاطر تتعلق بالخصوصية والحق في إعلام موثوق.

– الرقمنة وتأثيرها على الخصوصية

غياب ضمانات قانونية للسرية وعدم وضوح طرق التعامل مع الانقطاعات التقنية في الجلسات عن بعد يضع حماية حقوق الأفراد في موضع خطر.

قراءة تحليلية في خلفيات القرار

تعزيز الرقابة الدستوري

– قرار المحكمة يؤكد الدور الحاسم للمحكمة الدستورية كحارس للمبادئ الدستورية، خاصة في سياق تحديث القوانين وتقنيات العدالة.

– رسالة واضحة للمشرع

القرار يبين أن إصلاح التشريعات يجب أن يواكب المبادئ الدستورية ولا يجوز أن يُجرى على حساب الاستقلال القضائي والأمن القانوني وحقوق الدفاع.

– رقمنة الإجراءات بحاجة لضمانات دستورية

تؤكد المحكمة أن الرقمنة يجب أن تكون مرفوقة بضمانات تحمي حقوق الأفراد وتحافظ على سرية وسلامة الإجراءات القضائية.

خاتمة وتوصيات

قرار المحكمة الدستورية رقم 255/25 يؤكد أن تحديث قوانين العدالة ، خصوصًا عبر الرقمنة، لا يجب أن يتم على حساب المبادئ الدستورية مثل استقلال القضاء، الأمن القضائي، وحقوق الدفاع.

القرار يوجّه رسالة قوية للمشرع مفادها أن كل إصلاح قانوني يجب أن يُراعي التوازن بين فعالية الإجراءات واحترام الحقوق الأساسية.

كما يبرز الدور الحاسم للمحكمة الدستورية في حماية دولة القانون، ويُظهر أن بناء عدالة حديثة يمر أولًا عبر احترام الدستور وترسيخ ثقافته

التوصيات:

مراجعة صلاحيات وزير العدل في الشأن القضائي لضمان استقلالية السلطة القضاء.

إرساء ضوابط قانونية صارمة لتنظيم التبليغ وضمان سلامة الإجراءات.

اعتماد معايير تقنية وقانونية واضحة للجلسات عن بعد لضمان حقوق الدفاع.

تمكين المجلس الأعلى للسلطة القضائية من كامل صلاحياته في إدارة النظام القضائي، خاصة الرقمي.

 

مراجع مختارة

دستور المملكة المغربية، 2011

القرار رقم 255/25 للمحكمة الدستورية، 4 غشت 2025

أحمد بنسعيد، “الرقابة الدستورية واستقلال القضاء”، مجلة القانون، العدد 34، 2023

تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية، 2024

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار