أقلام حرة

الأحزاب المغربية: أزمة مشروع أم أزمة وجوه؟

الأحزاب المغربية: أزمة مشروع أم أزمة وجوه؟

قراءة تأسيسية على ضوء خطاب العرش لسنة 2025

منذ عقود والحقل الحزبي المغربي يعيش على إيقاع توتّرات متجددة تُترجم في ضعف الوساطة السياسية وتراجع الثقة الشعبية. وقد انقسم النقاش حول أصل العطب بين اتجاهين رئيسيين: أولهما يعتبر أن الأزمة هي أزمة مشروع سياسي غائب أو هش، وثانيهما يرى أنها أزمة وجوه ونخب استهلكت رصيدها وفقدت القدرة على تجديد العرض السياسي.

هذا الجدل اكتسب دلالة خاصة بعد خطاب العرش لسنة 2025 الذي ألح على إصلاح الحكامة الحزبية والانتخابية قبل نهاية السنة، وعلى إطلاق جيل جديد من البرامج التنموية الجهوية(1). وهو ما يفرض قراءة معمقة تبتعد عن التبسيط، وتعيد وضع السؤال في سياقه التاريخي، المؤسساتي، والبرنامجي.

1- الإطار النظري: حدود ثنائية «المشروع/الوجوه»

الأحزاب ليست مجرد أشخاص أو برامج، بل مؤسسات مركبة تتقاطع فيها ثلاثة عناصر:

– البناء الداخلي (الديمقراطية، التداول، التمكين للشباب والنساء)،

– القدرة على إنتاج السياسات وصياغة بدائل،

– علاقتها بالدولة والإدارة والقانون الانتخابي(2).

اختزال الأزمة في «الوجوه» يُسقط جوهر السؤال: هل للأحزاب مشروع متماسك قابل للقياس؟

وفي المقابل، الحديث عن «المشروع» فقط يتجاهل أن أي مشروع بلا نخب جديدة يتحول إلى وثيقة جامدة.

هذا التوازن هو ما دعت إليه الأدبيات الكلاسيكية في دراسة الحقل السياسي المغربي، سواء في تحليلات محمد الطوزي لبنية الشرعية(6)، أو في أطروحة ريمي لوفو حول الوساطة التاريخية بين المخزن والمجتمع(7).

2- سردية تاريخية موجزة

مرحلة ما بعد الاستقلال: بروز أحزاب الحركة الوطنية (الاستقلال، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية/الاتحاد الاشتراكي، ثم حزب التقدم والاشتراكية لاحقاً) في مواجهة أحزاب الإدارة (الحركة الشعبية، التجمع الوطني للأحرار…)، وهيمنة مركزية القرار على حساب البناء البرنامجي(9).

زمن التناوب (1998): إدماج المعارضة في السلطة التنفيذية بقيادة عبد الرحمن اليوسفي، مما أعطى صورة عن «الإصلاح داخل الاستمرارية»، لكنه كشف محدودية الدمقرطة الداخلية للأحزاب(8).

دستور 2011: عزز موقع الحكومة والبرلمان، لكنه لم يُلغِ الحاجة إلى أحزاب فعالة تنظيميا قادرة على ترجمة التفويض الشعبي إلى سياسات ملموسة(3).

انتخابات 2021: ارتفاع نسبة المشاركة (50,18%) وصعود ثلاثية (RNI–PAM–الاستقلال) شكل لحظة إعادة ترتيب للخريطة الحزبية، لكنه أعاد نفس السؤال: هل نحن أمام تجديد مشروع أم إعادة تدوير للوجوه؟(9)

3- الاقتصاد السياسي للحزب

الأزمة ليست خطابا فقط، بل مرتبطة بضعف تحويل البرامج إلى نتائج اجتماعية قابلة للقياس.

خطاب العرش 2025 ذكر بأن البنى التحتية والتصنيع لا قيمة لهما إذا لم ينعكسا على التشغيل والعدالة الاجتماعية(1).

المطلوب من الأحزاب صياغة عقود برامج جهوية، ومتابعة مؤشرات (الشغل، التعليم، الصحة، العدالة المجالية).

تقارير المندوبية السامية للتخطيط تكشف استمرار فجوة سوق الشغل وتفاوتات المجال، ما يفرض تجاوز منطق الشعارات نحو سياسات مبنية على الدليل متوافقة مع النموذج التنموي الجديد (2021)(4)(5).

4- إطار عملي لتحليل الأزمة

يمكن اقتراح مصفوفة رباعية الأبعاد لتقييم أداء الأحزاب:

الديمقراطية الداخلية: دورية المؤتمرات، شفافية الانتخاب، تمكين الفئات الجديدة(2).

القدرة البرمجية: برامج مرتبطة بميزانيات، آليات تقييم نصف سنوي، إعداد مذكرات ظل.

الانغراس المجتمعي: كثافة الفروع، شراكات مع المجتمع المدني، منصات رقمية تفاعلية.

الفعالية المؤسساتية: تحويل الوعود إلى قوانين، جودة الرقابة البرلمانية، تتبع تنفيذ السياسات.

هذه المصفوفة يمكن أن تتحول إلى آلية تقييم سنوية تعزز المساءلة العمومية.

5- دور الدولة

الأحزاب لا تشتغل في فراغ؛ فالدولة مطالبة بخلق بيئة تمكينية عبر:

– إصلاح القوانين الانتخابية قبل نهاية 2025(1)،

– تفعيل الجهوية المتقدمة كإطار لتوطين المشاريع(4)،

– ربط التمويل العمومي بالنتائج الفعلية(2)،

– تحصين استقلالية القرار الحزبي وتكافؤ الفرص.

6– أزمة وجوه أم تداول نخب؟

طول مدة القيادة ليس مشكلا إذا ارتبط بالمحاسبة.

لكن الجمود بدون تقييم يؤدي إلى التكلّس.

المرحلة الحالية تفرض نخبا مؤسسية قادرة على إنتاج السياسات، لا مجرد خطابات أو تسويق إعلامي.

تجربة قيادات مثل بنكيران، العثماني، أخنوش، بركة، وهبي، لشكر… تكشف تنوّع أنماط القيادة (كاريزما خطابية/تكنوقراطية/إدارة ائتلافية) لكن الميزان الحقيقي هو الأثر العمومي(6)(8).

7- مقارنات دولية

ألمانيا: قانون الأحزاب يفرض ديمقراطية داخلية وشفافية مالية تجعل التجديد عملية مؤسسية لا حدثا استثنائيا.

فرنسا: صعود تشكيلات جديدة عبر منصات رقمية كشف ضعف الأحزاب التقليدية لكنه أضعف الوساطة.

إسبانيا: التعددية الواسعة لم تمنع أزمة الثقة، ما يؤكد أن الحل في جودة العرض لا في كثرة الأحزاب.

8- نحو تعاقد حزبي جديد

خلاصة هذا المدخل تؤكد أن الخروج من ثنائية «المشروع/الوجوه» يتطلب:

– مأسسة التداول الديمقراطي وتحديد آجال قصوى للمؤتمرات(2)،

– ربط التمويل العمومي بالمردودية الاجتماعية(2)(4)،

– تحويل المقرات الحزبية إلى فضاءات إنتاج محلي وتشغيل،

– بناء مراكز تفكير حزبية لإصدار تقارير دورية،

– التزام القيادات بالشفافية ونشر بيانات تتبع الوعود كل ستة أشهر.

الأزمة الحزبية المغربية ليست مواجهة سطحية بين مشروع غائب ووجوه مستهلكة، بل هي أزمة مركبة ترتبط بالمأسسة، القدرة البرمجية، ودينامية النخب. خطاب العرش 2025 قدّم فرصة لإعادة تركيب هذه المعادلة، وربط الاستقرار المؤسسي بفعالية التنمية، وهو ما يستدعي تعاقدا حزبيا جديدا يقوم على المحاسبة، التداول، والأثر الملموس.

وبذلك، يمكن القول إن هذه الدراسة ليست سوى مدخلا أوليا لفهم ملامح الأزمة التي تعيشها الأحزاب السياسية اليوم. غير أن الصورة لن تكتمل إلا عبر تفكيك أداء كل حزب على حدة، ورصد مكامن القوة والضعف داخله، ثم مقارنته بآفاق التطور الممكنة. ولهذا ستعقب هذه الدراسة سلسلة من المقالات التحليلية التي ستضع تحت المجهر تجارب الأحزاب بشكل فردي، في محاولة لتقديم تقييم موضوعي ومسار تطبيقي لمستقبل العمل الحزبي في المغرب.

قائمة المراجع

1- خطاب العرش 2025 (النص الكامل، 29 يوليوز 2025).

2- القانون التنظيمي للأحزاب السياسية رقم 29-11 وتعديلاته (2015، 2021).

3- دستور المملكة المغربية 2011.

4- اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي (2021)، التقرير العام: المغرب الممكن.

5- المندوبية السامية للتخطيط، مذكرات الظرفية وسوق الشغل (2025).

6- محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب، 1999.

7- ريمي لوفو، الفلاح المغربي حارس العرش، 1985.

8- منية بناني شرايبي، عبد الرحمن اليوسفي: مسارات الفاعل السياسي، 2020.

9- تغطيات رسمية وإعلامية لانتخابات 2021 (نسبة المشاركة 50,18%).

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار