أقلام حرة

خطاب بايرو… دروس في الشرعية والمساءلة بين فرنسا والمغرب

الكلمات التي تصنع السياسة

في الخامس من شتنبر 2025، وقف فرانسوا بايرو أمام البرلمان الفرنسي بخطاب لم يكن مجرد كلمات، بل فعل سياسي بامتياز. أعلن تحمّله المسؤولية السياسية بشكل صريح، قبل أن يخضع لتصويت الثقة الذي أعاد ترتيب موازين القوة بين الحكومة والبرلمان. هذه اللحظة تمثل تطبيقًا حيًا للنظريات السياسية: من شرعية التمثيل والحوكمة الديمقراطية إلى اقتصاديات السياسات العمومية ونظرية الخطاب وآليات المساءلة البرلمانية (Weber, 1922 [1]; Rhodes, 1996 [2]).

إن ما حدث في فرنسا ليس حدثا معزولا؛ بل هو فرصة ثمينة للتأمل في ما يمكن أن يقدمه خطاب مماثل في سياق مغربي، حيث العلاقة بين المواطن والمؤسسات العامة ما تزال تتسم بتفاوت الثقة والشفافية.

1- الشرعية السياسية: أكثر من مجرد تمثيل

تشير النظرية الكلاسيكية إلى أن الشرعية تقوم على التمثيل والمساءلة المستمرة (Weber, 1922) [1]. تجربة بايرو تؤكد هذه النظرية عمليًا: اعترافه بالمسؤولية أعاد تشكيل الصورة الذهنية للرأي العام وأثبت أن الشرعية لا تُكتسب بالمنصب وحده، بل بالقدرة على مواجهة النقد والمحاسبة.

في المغرب، حيث تشير التقارير الرسمية إلى انخفاض الثقة في المؤسسات [3]، تصبح هذه الدروس أكثر أهمية. الخطاب المسؤول والشفاف ليس رفاهية، بل شرط أساسي لإعادة بناء رابط ثقة حقيقي بين الحكومة والمواطن، خصوصًا في الملفات الحساسة كالعدالة الاجتماعية والتعليم والصحة.

2- الخطاب كفعل سياسي ووسيلة لإعادة التوازن

وفقًا لنظرية أكتفيزم (Austin, 1962) [4]، الكلمات ليست مجرد رموز، بل أفعال تحدث تغييرا في الواقع. خطاب بايرو كان مثالا حيا على هذا: الكلمات لم تصف السياسة فحسب، بل أعادت ترتيب التحالفات داخل البرلمان وأثّرت مباشرة في الرأي العام.

في المغرب، غالبًا ما تتسم الخطب البرلمانية بالإنشائية واللغة التقنية، وهو ما يحد من تأثيرها. الحلّ يكمن في تطوير خطاب تواصلي يجمع بين الأرقام والقصص، بين الرؤية الوطنية والهموم اليومية للمواطن. هذا الدمج يرفع من فعالية الخطاب ويحوّله إلى أداة شرعية قوية.

3- الحوكمة والسياسات العمومية: من الكلام إلى النتائج

تشير الدراسات الحديثة إلى أن جودة السياسات العمومية ومردوديتها هي المقياس الحقيقي للشرعية والثقة (Rhodes, 1996 [2]; Lijphart, 1999 [5]). في فرنسا، ارتبط خطاب بايرو مباشرة بتقييم سياساته ونتائجها.

أما في المغرب، فتتعرّض السياسات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة لتحديات كبيرة [6]. هنا، يبرز الدور الحيوي للخطاب السياسي المدعوم بالمعطيات: ربط الكلام بالنتائج والأرقام الواقعية، وتقديم رؤية واضحة لخطط الحكومة، بما يسهّل على البرلمان والمواطنين تقييم الأداء بشكل موضوعي.

4- المساءلة البرلمانية: قلب الديمقراطية النابض

النظام البرلماني يقوم على مبدأ المساءلة مقابل الثقة (Lijphart, 1999 [5]). تصويت البرلمان الفرنسي على خطاب بايرو كان تجسيدًا عمليًا لهذا المبدأ.

في المغرب، غالبًا ما يُنظر إلى جلسات البرلمان كطقس بروتوكولي، دون تأثير فعلي على السياسات. التوصية هنا واضحة: تفعيل أدوات الرقابة البرلمانية، من لجان استطلاعية وتقارير تقييمية، وربطها بالنتائج الحقيقية لسياسات الحكومة، بما يضمن مساءلة حقيقية وشفافية عالية.

5- كيف يمكن للمغرب ترجمة الخطاب إلى فعل مؤثر؟

1. جرأة وشفافية في الخطاب: على الوزراء والمسؤولين تقديم بيانات واضحة عن الإنجازات والإخفاقات مع خطط قابلة للتنفيذ.

2. الثقة بالنتائج لا بالشعارات: ربط تصويت البرلمان بالأداء الحقيقي للسياسات، مع مؤشرات قياس موضوعية.

3. المواطن شريك فاعل: إشراك الإعلام ووسائل التواصل الرقمي لنقل الخطاب بدقة ووضوح، وتحويل المواطن إلى طرف مشارك في تقييم السياسات.

4. تفعيل أدوات الرقابة: لجان استطلاعية وتقارير مفصّلة وشفافة تربط البرلمان بالمواطن والنتائج.

الكلمات تصنع الشرعية

بين باريس والرباط، درس واحد واضح: الخطاب السياسي هو فعل، والشفافية قوة، والمساءلة طريق إلى الشرعية. إذا كان بايرو قد حول أزمة سياسية إلى فرصة لتعزيز الثقة بين الحكومة والبرلمان، فإن المغرب مدعو لاستلهام هذه التجربة لبناء ممارسة سياسية أكثر نضجًا، حيث تتكامل الكلمة والفعل، وتصبح المؤسسات والمواطن في قلب تجربة ديمقراطية متكاملة.

المراجع

[1] Max Weber, Economy and Society, 1922.

[2] R.A.W. Rhodes, The New Governance, 1996.

[3] تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول الثقة في المؤسسات، الرباط، 2023.

[4] J.L. Austin, How to Do Things with Words, 1962.

[5] Arend Lijphart, Patterns of Democracy, 1999.

[6] تقرير البنك الدولي حول التنمية في المغرب، 2022.

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار