شذرات، تراجيديا الحنين، حنين التراجيديا – هشام محب

في رهان النجاة، تذكر أن نرد الذاكرة، نرد خاسرة…
قلت للفاتنة حاملة الورد والتراييق،
ذات لمحة، فيما كتمت من وجعي و بوحي،
تلزمني حجتين ودهر من التأوه،
من الأنين…
كي يشفى من جرحي الحنين.
“ليس هنالك شيء أقل وجعا، لذا لا تستدعي الحزن فلدينا منه ما يكفي […]” هكذا قال “روشتو” لصديقه الشاعر ذلك المساء… لكن تعلق الفراشة بالحلم عادة يكون موسميا. فما نسميه خيبة ليس انعكاس الصورة في الوحل صدفة، بل هو الوحل نفسه الذائب في نحتنا. لذلك لا صورا نحتاج ولا مرايا، يكفي أن ننظر عند البرك للتراب… نحن حتما تلك “الوحدة” حيث لا معنى لشيء غير الفناء… تلك أسماؤنا التي من قبل قد نقشت على الماء…
كل بسمة موسيقى، كل موسيقى تسبح في الدمع…
إلى آخره…
إلى آخر هذا الإنكسار.
…
ضبابي و غامض، لا اسم له، تكفيه هبة نسيم خفيف لتلبية النداء، صدره ممتلئ بالمجهول والموسيقى… كانت تحيره وردة نتأت على خاصرة نافذة تطل على الفنار، جامح كأسطورة، وبسيط كجرة خزف… لم يكن شاعرا، كان بالكاد يوشي بواح سيزيف للرب/الصخرة أعلى الجبل، كان الريح ينكش شعره من أثر التيه، و يداعب رذاذ المساء وجهه من عادة الترقب، وكان لا يبسط حفنات الهباء من يديه إذ صدق الرؤيا، بل يبدل الحفل بالعزاء، ويواري في اللغة آماله وآلامه…
“ستصير أناملي ذهبا، و صوتي سيغدو بوابة الكون” : يقول.
وكلما ارتعب من الضياء تحسبا لظله، اجتبته بسحر عينيها. يسألونه، من هي ؟
يقول : “ذات حنين ربما ترون على الطريق نجما، تلك هي… تلك بداية الأغنية…”
…
قهوة فحماء، ذبالة شمس، سجائر تلسعه من وريده و تحترق، وفراشات تحلق تناوش ضجره… باهتة في عينيه المدينة، تتفصد التهدل و تذوب في الرمادي الكئيب…
يقول العابرون على شروده : “رأيناه، كان كلما فاض به الحزن قبل باطن كفها، وراح يملأ رئتاه من عطرها… به مد الحنين لملمحها القيل برعم لوز… كان يذوب كما الشمس في اسمها ويهيم استضاءة… يحبها، يعشقها، كان يعبدها… كان باسم التيه و عينيها يسبح منشطر الروح إلهه، عدمه… إلى أن يناله الغفو “…
وتتعالى التآويل….
لكنه كان يعلم جيدا بأنه ليس هنالك كيف كي يمت أطياف الفراش بصدق لواعجه، فليس ثمة جسر بين الطين وسحيبات الياسمين… كانت على ثغرها شامة سمراء، وكان صوتها أرق من نفخة ناي، لها هدب حجلاء موسيقية أشذى من ذبح الكمان، وعيناها عسليتان مفتوحتان على الغروب…
يقول : “وهل تكفي “أحبك” ليخبو جمري الملتهب ؟”
كان الأرق يسامر جذبه والهوس كان يغالي في تقمصه، وكلما مد يده ليداعب شامتها، ناله نصب الفراغ واستقصى السراب ذراعيه…
…
هي: من أنت ؟
- ظل، ووجهي بقايا أمنية.
هي: ما أتاك إلي حتى أتيتني؟
- حمى الفراغ وشوق لجيد يكدر عبيره حمرة أوردتي.
هي: لا زلت تسكن الجرح الذي لا زال يسكنك !
- ظللت أعبدك وأسقيك طورا من دمي، لكني فشلت في الوقوف على بياضك.
هي: وتظل تحمل الصور أنى حلت بك رياح الذاكرة، يا لآمالك الآسرة.
- بل تحملني الصور واليا إليك بالأشرعة، علي تعلمت من الغرق النجاة، وعل موجا تقادف لأعتابك هذا القلب.
هي : لم تجد من فن الحب بعد غير الغواية وكلام الشعراء الكسالى.
- لم أجد منهما غير التعب… الحب كما الوجود لعنة سابقة على الخلق، أما عينيك؛ محاولة فاشلة لاقتراف الحياة غذاة الرحيل.
هي: الحب كالإشراق، هبوب نسيم عفيف، شفيف، خفيف على الزمن، لا يعيد كرته ولا يرسو على نوافذ الأبدية كالآلهة.
- نعم، إنه أول الإشراق، لمحة خاطفة لخاطرة تحط على الجسر بعيد القطار، لكنه كالصرع، يسكن الروح، كما يسكن مارد قمقمه.
هي: روحك الآن مهجورة، وجسمك حر لحدود التلاشي، دع حواسك تسكن الليل وامض، لا شيء مطلق أو أبدي.
- الحنين يجازف حتفه في الوجود، يجيد الوقوف على الفراغ، يجيد التعدد في المعنى، التوحد في الكون، الحلول في نجمة، في شكل غيمة، في لذة، في زنبقة عارية من الخطيئة، في رب جميل، في نفخة ناي، في ذكرى…
هي: دع الحنين لا يطيل الوقوف على أطلالك المقفرة، كي لا تجعل من جرحك العتيق هذا مزارا ومقبرة…
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار