أخبار وطنية

محمد السادس: حين يتكلّم العرش بلغة العدالة الاجتماعية ويؤسّس لملكية الإنسان والكرامة

يشكّل خطاب جلالة الملك محمد السادس أمام البرلمان في افتتاح السنة التشريعية 2025–2026 لحظةً سياسيةً ذات دلالات مركّبة تتجاوز حدود البلاغة الملكية إلى عمق المشروع المجتمعي المغربي في زمنٍ تتقاطع فيه التحديات الاجتماعية مع مطالب الجيل الجديد الذي يعبّر عن ذاته بلغةٍ احتجاجية صريحة.

الخطاب لم يكن محضَ افتتاحٍ بروتوكولي، بل كان بيانًا استراتيجيًّا لإعادة توجيه البوصلة الوطنية نحو العدالة الاجتماعية، والتوازن الإقليمي، وحوكمة الأداء العمومي.

أولًا: منطق الخطاب وسياقه السياسي

1. لحظة تشخيص وعتبة انتقال

أتى الخطاب في لحظة دقيقة تتّسم بتوتر اجتماعي متنامٍ، وصعود حركة شبابية رقمية عابرة للأحزاب (Gen Z 212)، مطالبة بتجديد العقد الاجتماعي، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع.

ضمن هذا السياق، حرص جلالته على توظيف لغةٍ مزدوجة تجمع بين الصرامة التوجيهية والحنكة التواصلية؛ إذ حمل الخطاب في طيّاته إشارات واضحة بأن الملك لا يقف موقف المتفرج، بل يمارس دوره الدستوري كحَكَمٍ ضامنٍ لتوازن السلطات، وموجّهٍ للإصلاح العمومي نحو الملموس والميداني.

2. توازن بين الشرعية التاريخية والشرعية الاجتماعية

منذ اعتلائه العرش، استثمر الملك محمد السادس في بناء شرعية جديدة قوامها التنمية والعدالة والإنصاف، لكن خطاب 2025 أعاد تعريف هذه الشرعية من خلال مفرداتٍ تؤكد أنّ الملكية لا تكتفي بتوجيه الدولة، بل تسعى إلى حماية المجتمع من هشاشاته.

بهذا المعنى، تَحوَّل الخطاب من مجرد دعوة إلى الإصلاح، إلى إعلانٍ عن مسؤولية ملكية في قيادة التحوّل الاجتماعي، دون المساس بمبدأ فصل السلط، وهو توازنٌ نادر في الممارسة السياسية العربية المعاصرة.

ثانيًا: البنية الدلالية للخطاب

1. العدالة الاجتماعية بوصفها مبدأً تأسيسيًّا

جعل الخطاب من العدالة الاجتماعية محورًا ناظمًا لكل السياسات العمومية المقبلة.

العبارات المختارة لم تكن شعاراتٍ إنشائية، بل صيغت بأسلوب تشريعي يرقى إلى مرتبة “التوجيه الإستراتيجي الملزم”، وهو ما يفهم منه أن الملك أراد إدماج العدالة الاجتماعية ضمن صميم التخطيط المالي، والجهوي، والإداري، لا كقطاعٍ عرضي بل كمبدأٍ حاكم.

2. التربية والصحة والعمل: مثلث الكرامة

ركّز جلالته على ضرورة تسريع مشاريع التعليم والصحة والتشغيل باعتبارها مرتكزات الكرامة الإنسانية.

فالخطاب لم يَعُد يتحدّث عن “التعليم كاستثمار في الإنسان”، بل كـ شرطٍ وجودي لاستمرار الدولة الحديثة.

إنها نقلة من الخطاب التنموي الكلاسيكي إلى خطابٍ يربط بين الكرامة والفعالية، وهو من أبرز سمات الخطابات السياسية المتقدمة التي تنتمي إلى فلسفة “الحق في التنمية”.

3. البعد الرقابي والإنذاري

وردت في الخطاب عبارات تحذيرية غير معهودة في الأدبيات الملكية المغربية: “كل تقصير أو تأخر غير مقبول”.

تلك الجملة تختصر تحولًا في نبرة السلطة من “الوصاية الموجهة” إلى المساءلة الدستورية، بما يعني أن الملك يُحمّل المسؤولية للفاعلين التنفيذيين والمنتخبين، ويضعهم أمام محاسبة رمزية وجماهيرية في آنٍ واحد.

ثالثًا: القراءة الاستراتيجية في مضمون الخطاب

1. من الرؤية إلى آليات التنفيذ

التحول الأبرز في هذا الخطاب هو الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة “ثقافة النتائج”.

الملك لم يعد يتحدث عن المشاريع الكبرى بل عن “سرعة الإنجاز”، وعن “المواكبة الميدانية”، وعن “المسؤولية الفردية داخل الجهاز العمومي”.

هذا المنحى يعبّر عن إرادة ملكية في عقلنة الدولة وتحويلها إلى جهاز منتج للقيمة العامة، لا مجرد جهازٍ محافظ على التوازنات الشكلية.

2. البعد الترابي: من الدولة المركزية إلى الدولة المتوازنة

الخطاب أكّد أن التنمية ليست امتيازًا جغرافيًّا، بل حقٌّ وطنيٌّ شامل.

الدعوة إلى إنصاف المناطق الجبلية والواحات والأقاليم النائية ليست مجرد حسٍّ اجتماعي، بل هي تصحيح هندسة التنمية المغربية التي طالما انحازت للمدن الكبرى.

في هذا السياق، يمكن قراءة الخطاب كوثيقة سياسية تؤسس لمرحلة جديدة من “العدالة المجالية”، وربما تمهيدًا لمراجعةٍ أعمق في آليات الجهوية المتقدمة.

3. البعد القيمي والحضاري

تميّز الخطاب بعمقٍ قيمي، إذ أعاد التأكيد على مركزية الإنسان في المشروع الوطني.

الإنسان، في رؤية محمد السادس، لم يَعُد مجرد أداةٍ في معادلة التنمية، بل غايةً لها، ومؤشرًا على مدى شرعية الأداء العمومي.

هذه الرؤية، القائمة على إنسانية الدولة، تمثل منعطفًا في الفكر السياسي المغربي، وتضعه ضمن التيار العالمي للحوكمة الإنسانية الذي تتبناه الأمم المتحدة في أجندة 2030.

رابعًا: القراءة المقارنة مع خطابات سابقة

بمقارنة هذا الخطاب بخطب السنوات الماضية، يمكن ملاحظة ثلاث تحولات جوهرية:

1. تحوّل في اللغة: من لغة الوعود إلى لغة الالتزام.

2. تحوّل في المقاربة: من توصيف الأعطاب إلى تحديد المسؤوليات.

3. تحوّل في الأفق: من خطابٍ وطني مغلق إلى خطابٍ ذي بعدٍ كوني يتقاطع مع مقولات العدالة المناخية، والإنصاف الاجتماعي، والتنمية المستدامة.

بهذا، يصبح الخطاب وثيقة سياسية تتقاطع فيها البنية الخطابية الملكية مع خطاب الدولة الحديثة ذات الطابع المؤسساتي القائم على النجاعة والمحاسبة.

خامسًا: التحديات والإمكانات

1. تحدي الفعالية التنفيذية

يبقى السؤال الأبرز: كيف تُترجم هذه الرؤية إلى سياسات عملية في ظلّ تعقيد البيروقراطية وضعف الحكامة المحلية؟

الجواب يكمن في بناء منظومة تتجاوز الأشخاص إلى المؤسسات، تُقاس نتائجها بالأثر لا بالميزانية.

2. تحدي الثقة الاجتماعية

استعادة الثقة بين الدولة والمجتمع رهينة بقدرة الفاعلين على إثبات أن الوعود لم تعد مجرّد خطابات.

في عصر الرقمنة والشفافية، الخطاب الملكي وضع النخبة السياسية أمام مرآةٍ لا ترحم.

3. الإمكانات التحولية

إذا تم تفعيل ما جاء في الخطاب بمقاربة علمية، فسيكون المغرب على موعدٍ مع تحوّل نوعي نحو نموذجٍ تنموي إنساني، يتجاوز الرأسمالية الريعية إلى اقتصاد القيمة العامة الذي يربط النمو بالعدالة والكرامة.

إن خطاب جلالة الملك محمد السادس في أكتوبر 2025 ليس حدثًا عابرًا في الدورة التشريعية، بل هو وثيقة تأسيسية تُعيد تعريف طبيعة الدولة المغربية في زمن التحولات العميقة.

خطابٌ يجمع بين الرؤية السياسية والحس الإنساني، بين النقد الذاتي والمسؤولية الوطنية، وبين صرامة المؤسسة ودفء الأب الراعي للأمة.

هو خطابُ دولةٍ تعي أن شرعيتها لا تُبنى على القوة فقط، بل على العدالة والكرامة والثقة.

بهذه المضامين، يرقى الخطاب إلى مصاف الوثائق السياسية العالمية التي تعيد رسم العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتجعل من الإنسان المغربي محور الدولة لا هامشها.

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار