أقلام حرة

مدونة الأسرة بعد 20 سنة: هل آن أوان المراجعة؟

التحول البنيوي بين النص والواقع

بعد عقدين من الإصلاح التاريخي الذي شهده المغرب سنة 2004 بإقرار مدونة الأسرة، تقف البلاد اليوم عند مفترق طرق. فقد مثّل النص آنذاك قفزة تشريعية غير مسبوقة في العالمين العربي والإسلامي، جسّدت توافقاً فريداً بين المرجعية الدينية والمنظور الحقوقي الدولي. لكنّ مرور الزمن، واحتكاك النص مع الواقع الاجتماعي، كشف عن تحديات بنيوية وفجوات عملية تستدعي مراجعة نقدية هادئة، تُعيد التوازن بين الحماية القانونية للأسرة وحقوق النساء والأطفال والعدالة النوعية.

أولاً: المدونة في سياقها التاريخي – ثورة هادئة باسم التوافق

تمّت المصادقة على مدونة الأسرة سنة 2004 بعد مشاورات واسعة جمعت العلماء، الحقوقيين، الحركات النسائية، والقصر الملكي. وارتكزت على أربعة مبادئ جوهرية:

– المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات

– رفع ولاية الرجل على المرأة

– تشديد القيود على التعدد

– جعل الطلاق بيد القضاء لا الذكر

لكن هذا التقدم الذي نُظر إليه حينها كـ”ثورة هادئة”، بات اليوم مهدداً بالتآكل بفعل جمود النص أمام دينامية الواقع، وظهور تحولات عميقة على مستوى الأسرة، الهوية، والسلوك الاجتماعي.

ثانياً: مفارقات الواقع – عندما يصطدم النص بالممارسة

رغم مرور 20 سنة على اعتماد المدونة، إلا أن التقارير الوطنية والدولية تكشف عن اختلالات مستمرة في تطبيقها، نذكر منها:

– الزواج القسري وزواج القاصرات: لا تزال آلاف الحالات تُسجّل سنوياً بترخيص قضائي، ما يُفرغ المادة 19 (سن الزواج 18 سنة) من مضمونها.

– التعدد والتحايل: رغم التضييق، يُمارس التعدد غالباً عبر التحايل أو عبر زواج عرفي غير موثق، خصوصاً في الهوامش.

– الطلاق و”الطلاق للشقاق”: تضاعف عدد طلبات الطلاق، لا سيما من النساء، ما يطرح إشكالية تفكك الأسرة بدل حمايتها، وسط غياب آليات للوساطة والدعم النفسي والاجتماعي.

– النفقة والحضانة: تعاني النساء الحاضنات من ضعف الإنصاف في قضايا النفقة، ومن آليات تنفيذ قضائية مرهقة وبطيئة.

ثالثاً: المجتمع المغربي الجديد – تحولات جذرية تفرض المراجعة

يعيش المغرب منذ 2004 تحولاً ديموغرافياً وثقافياً حاداً، من أبرز ملامحه:

– ارتفاع نسبة العزوف عن الزواج، خاصة في المدن.

– تصاعد الوعي الحقوقي النسائي، وانتقاله من النخبة إلى القواعد.

– بروز أسر “غير نمطية” (أمهات عازبات، مساكنة خارج الزواج، زواج مدني بالخارج).

– زيادة الهجرة، وتعدد المرجعيات القانونية للمغاربة المقيمين في الخارج.

كل هذه التغيرات تضغط على النص القانوني التقليدي، وتكشف محدودية قدرته على مواكبة مجتمع لم يعد محافظاً بالمعايير القديمة.

رابعاً: إشكالية المرجعية – بين الشريعة والدستور والمواثيق الدولية

يحتكم الجدل حول مراجعة المدونة إلى ثلاث مرجعيات رئيسية:

– المرجعية الدينية: المدونة تستند إلى مقاصد الشريعة، وتُعتبر من “مجال الإمامة”، ما يجعل المراجعة محكومة بفتاوى وتأويلات فقهية.

– المرجعية الدستورية: دستور 2011 نصّ على سمو الاتفاقيات الدولية، وعلى مبدأ المساواة بين الجنسين ومنع التمييز.

– المرجعية الدولية: المغرب ملتزم باتفاقية “سيداو” وإن بتحفظات، ويخضع للتقييم الدوري الشامل في مجال حقوق الإنسان.

السؤال الجوهري اليوم: كيف يمكن التوفيق بين هذه المرجعيات دون الوقوع في التنازع أو التنازل؟

خامساً: نحو مدونة جديدة للأسرة – محددات الإصلاح الممكن

لا تكمن الحاجة إلى التغيير فقط في المواءمة مع المعايير الحقوقية، بل أيضاً في تعزيز الاستقرار الاجتماعي وتقوية مؤسسة الأسرة. وتشير توصيات الهيئات الوطنية (المجلس الوطني لحقوق الإنسان، النيابة العامة، جمعيات المجتمع المدني) إلى مجموعة من المقترحات الإصلاحية الجوهرية:

– إلغاء الاستثناءات في زواج القاصرات، وتجريم تزويج الطفلات.

– المساواة في الولاية على الأبناء بين الأم والأب.

– إصلاح نظام الإرث بما يحقق عدالة أكثر، أو على الأقل فتح نقاش عمومي صريح حوله.

– إلغاء التعدد أو تقنينه بشكل صارم وفعلٍ لا نظري فقط.

– استحداث وسائل قضائية أسرع في النفقة والحضانة (صناديق الدعم، التنفيذ الإلكتروني…).

– التنصيص على عقد الزواج المدني للمغاربة بالخارج.

الإصلاح ليس ترفاً… بل ضرورة

بعد عشرين عاماً، لم تعد مدونة الأسرة قادرة على أداء وظيفتها بنفس الفعالية. بل إن استمرار تطبيقها بصيغتها الحالية يُكرّس الظلم، ويُفاقم هشاشة الأسر، ويُقوّض ثقة المواطن في العدالة.

الإصلاح المطلوب اليوم يجب أن يكون شجاعاً، متوازناً، وتدريجياً، يستند إلى قراءة عميقة للتحولات المجتمعية، ويُعبّر عن إرادة سياسية واضحة تُعيد للمواطن ثقته في دولة الحق والقانون.

هوامش:

تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول مدونة الأسرة – 2022

تقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة في المغرب – 2021-2024

دراسات المرصد الوطني للتنمية البشرية – المغرب

قرارات المحكمة الدستورية حول المساواة والتمييز – 2015-2023

اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار