قمة شرم الشيخ للسلام: حين يحاول الشرق أن يتنفس من جديد

في زمنٍ يختنق فيه الشرق الأوسط بأنفاس الحرب، وتختلط فيه السياسة بالدم، تولد من رحم العواصف مدينةٌ صغيرةٌ على شاطئ البحر الأحمر اسمها شرم الشيخ، لتعيد للعالم السؤال الأبدي:
هل يمكن للسلام أن ينهض من تحت الركام؟
وهل ما زال في هذه المنطقة ما يستحق الحياة؟
قمة شرم الشيخ للسلام لم تكن مجرّد اجتماعٍ دبلوماسيٍ موسّع، بل محاولة لإعادة تعريف الممكن في واقعٍ انهكته الصراعات وأرهقته الشعارات. ففي ظل مأساة غزة، وتصدّع النظام الدولي، أعادت القمة طرح المعادلة الأصعب:
كيف يمكن أن نصنع السلام في زمنٍ لم يعد فيه أحد يثق بأحد؟
1- بين ركام الحرب وأمل الإنسانية
شرم الشيخ، المدينة التي حملت اسمها في الذاكرة السياسية العربية منذ تسعينات القرن الماضي، عادت اليوم لتكون منبرًا لإحياء ما تبقى من لغة الدبلوماسية.
اجتمع القادة تحت سقفٍ واحدٍ ليس لأنهم متفقون، بل لأنهم يدركون أن استمرار الصمت يعني انفجارًا أكبر.
على طاولة القمة، امتزجت الأجندات بالمخاوف:
– مصر تبحث عن استقرارٍ إقليمي يحمي حدودها الجنوبية ويصون توازنها الاستراتيجي.
– أوروبا تحاول ترميم صورتها بعد عقودٍ من العجز أمام النزاعات المتكررة.
– الولايات المتحدة تسعى لإثبات أن نفوذها في المنطقة لم يتآكل بعد.
– أما الدول العربية، فتدرك أن السلام لم يعد خيارًا سياسيًا، بل شرطًا للنجاة في عالمٍ تتغير معادلاته بسرعة الضوء.
لكن خلف كل ذلك، كانت الإنسانية هي الحاضر الأكبر، تلك التي تعبّر عنها وجوه الأطفال في غزة، ودموع الأمهات، وصمت العالم الذي بدأ يختنق بثقل ضميره.
2- قمة الكلمات الثقيلة: من الرمزية إلى الواقعية السياسية
خرجت القمة بخلاصاتٍ دقيقة حملت بين سطورها توازنًا حذرًا بين الأمل والواقع.
فقد شدد البيان الختامي على ثلاث ركائز أساسية:
1. تحويل الهدنة الإنسانية إلى مسارٍ سياسيٍ مستدام.
2. تعزيز الدور المصري كوسيطٍ ضامنٍ ومحورٍ للحوار الإقليمي.
3. تحميل المجتمع الدولي مسؤولية قانونية وأخلاقية تجاه المدنيين في غزة.
إلا أن هذه العناوين الكبرى تخفي وراءها سؤالاً وجوديًا:
هل يمكن تحقيق سلامٍ حقيقي في غياب العدالة؟
أم أن ما يُبنى اليوم في شرم الشيخ هو سلام الضرورة، لا سلام القناعة؟
3- مصر: حين تتحول الدبلوماسية إلى فعلٍ أخلاقي
منذ توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” إلى مبادرات “شرم الشيخ”، حافظت مصر على مكانتها كحارسٍ للسلام الإقليمي، لا باعتبارها قوة فرضٍ، بل باعتبارها قوة توازنٍ وضميرٍ سياسي.
لقد أدركت القاهرة أن غياب دورها يعني انزلاق المنطقة نحو الفوضى، وأن الاستقرار في فلسطين ليس شأنًا حدوديًا بل قضية أمن قومي عربي.
في هذه القمة، أعادت مصر إلى العالم درسًا بسيطًا وعميقًا في آن:
أن الدبلوماسية الحقيقية ليست إدارة الصراع، بل ترويض الجنون، وإبقاء الباب مفتوحًا بين العقل والنار.
4- مخرجات القمة بين الوعد والخيبة
رغم الحفاوة الإعلامية، فإن البيان الختامي لا يخفي التوازن الدقيق بين الخطاب الإنساني والحسابات السياسية.
فالدعوة إلى وقف إطلاق النار جاءت مشروطة باعتبارات أمنية، والمساعدات الإنسانية رُبطت بآليات مراقبة، أما المسار السياسي فقد تُرك مفتوحًا بانتظار “ظروفٍ مواتية”.
إنها الصيغة المعتادة في دبلوماسية الشرق الأوسط: سلامٌ على الورق، وحربٌ معلّقة في الهواء.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن شرم الشيخ نجحت في إعادة اللغة السياسية إلى ما قبل الانفجار، أي إلى مساحةٍ يمكن فيها للعقل أن يتحدث قبل أن يصرخ السلاح.
5- السيناريوهات الممكنة: بين الهدوء المؤقت والسلام العادل
– السيناريو الأول: “سلام الضرورة” — المسار الواقعي
في هذا المسار، ينجح الضغط الدولي في تثبيت هدنة طويلة الأمد تحت إشرافٍ مصري–أممي، تُفتح فيها المعابر وتبدأ عملية إعادة الإعمار.
قد لا يتحقق حلٌّ سياسي شامل، لكن الاستقرار النسبي سيعيد للمدنيين شيئًا من الحياة.
إنه سلام بارد، لكنه سلامٌ يمنح الوقت فرصةً للنضج.
– السيناريو الثاني: “الانفجار المؤجل” — المسار المتشائم
إذا استمر غياب الثقة وتجاهلت إسرائيل الالتزامات، فقد تتدهور الأوضاع تدريجيًا نحو عنفٍ متجددٍ بوجوهٍ جديدة.
ستتحول الهدنة إلى هدنة شكلية، وتعود غزة إلى دورةٍ مألوفة من القصف والحصار، فيما يواصل المجتمع الدولي لعب دور المتفرج.
هذا السيناريو يعني موت السلام موتًا بطيئًا، وعودة المنطقة إلى نقطة الصفر.
– السيناريو الثالث: “الشرق الجديد” — المسار الطموح
في هذا المسار، تتحول شرم الشيخ إلى نقطة انطلاقٍ تاريخية لمشروعٍ متكاملٍ يعيد صياغة العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على أساس العدالة والكرامة والاعتراف المتبادل.
يبدأ المسار بإعادة الإعمار، يمر عبر توحيد الصف الفلسطيني، وينتهي بإطلاق مفاوضات جادّة برعايةٍ دولية.
إنه سيناريو سلامٍ ناضجٍ يُبنى على العدالة لا على التسوية المؤقتة، وعلى الشراكة لا على الوصاية.
ربما يبدو هذا الطريق طويلاً، لكنه وحده القادر على كسر الحلقة المفرغة التي جعلت من الشرق الأوسط مسرحًا دائمًا لتجريب الفشل.
6- الإنسان أولاً: حين يتكلم الصمت
ما لم يُكتب في البيانات الرسمية هو ما يجعل هذه القمة مختلفة:
الوجوه المنهكة في غزة، الأطفال الذين ينتظرون المعابر أن تُفتح، والنساء اللواتي يعلّقن الأمل على خبرٍ من المذياع.
إن السياسة، مهما بلغت من دقة، تفقد معناها إن لم تضع الإنسان في مركزها.
فالسلام ليس توقيعًا على الورق، بل استعادة لحق الإنسان في أن يحيا دون خوف.
سلامٌ يليق بالبشر
قمة شرم الشيخ ليست نهاية الحرب ولا بداية الجنة، لكنها نافذة صغيرة في جدارٍ كثيفٍ من اليأس.
قد لا تُغيّر العالم في يومٍ واحد، لكنها تذكّرنا بأن الشرق الأوسط ما زال قادرًا على أن يدهش العالم حين يقرّر أن يعيش بعقلٍ لا بغريزة.
فالسلام، كما قال نيلسون مانديلا،
“إذا أردت السلام مع عدوك، فعليك أن تعمل معه، وحينها يصبح شريكك.”
ربما حان الوقت ليُجرب الشرق الأوسط هذا الدرس العظيم،
لا في بياناته الرسمية، بل في ضميره الجمعي.
فالتاريخ لا ينتظر المترددين،
وشرم الشيخ قد تكون آخر محاولةٍ جادةٍ ليقول الشرق للعالم:
نريد أن نعيش… لا أن نُروى في نشرات الأخبار.
اشترك الآن في القائمة البريدية لموقع الدائرة نيوز _ Dairanews لمعرفة جديد الاخبار