الانتخابات ليست مجرد إجراء شكلي أو احتفال موسمي بالديمقراطية، بل هي اختبار حقيقي لمستوى النضج السياسي، ووعي الناخب، وفاعلية الأحزاب، وقدرة الإعلام على التأطير والتوجيه. في المغرب، كما في كثير من التجارب الديمقراطية الحديثة، يظل التحدي الأكبر هو ربط الوعود الانتخابية بالواقع الفعلي، وضمان أن يظل المواطن محور العملية الانتخابية لا مجرد متفرج.
1- البرامج الحزبية بين الطموح والفراغ
رغم التطور الذي شهدته التجربة الانتخابية في المغرب، ما تزال البرامج الحزبية تواجه تحديات أساسية تحد من قدرتها على إحداث فرق ملموس. أول هذه التحديات هي عمومية الشعارات؛ فالوعود غالبًا ما تبقى عامة وغير مترجمة إلى أهداف واضحة قابلة للقياس، ما يضعف مصداقية الأحزاب أمام المواطنين. ثانيًا، هناك غياب الرؤية الاستراتيجية، إذ ترتبط البرامج بفترة الحملة الانتخابية فقط، دون خطط مستدامة أو مؤشرات أداء لما بعد الانتخابات، ما يؤدي إلى انقطاع الاستمرارية في العمل السياسي. أما التحدي الثالث فيتمثل في ضعف الصلة بالواقع المحلي، حيث تميل البرامج إلى تجاهل قضايا محورية مثل البطالة، الصحة، التعليم، والسكن، مما يخلق فجوة بين المواطن وأحزابه.
وتؤكد الأرقام الرسمية هذه الملاحظات: وفق المندوبية السامية للتخطيط (2023)، يرى 72% من المواطنين أن البرامج لا تعكس أولوياتهم، بينما يرى 68% أن الوعود الانتخابية تُنفذ جزئيًا فقط. هذه الإحصاءات تبرز الحاجة الملحة إلى تحويل البرامج الانتخابية من شعارات إلى أدوات استراتيجية واقعية، ترتكز على خطط قابلة للتنفيذ وتلبي تطلعات المواطنين. ومن هنا تبرز أهمية تطوير البرامج بحيث تكون مرتكزة على الواقع، واضحة الأهداف، ومستدامة بعد الانتخابات، لضمان فعالية العملية السياسية وبناء الثقة بين المواطن والأحزاب.
2- مسؤولية الناخب: بين الوعي واللامبالاة
الناخب ليس طرفاً سلبياً في العملية الانتخابية، بل هو محورها. اختيار المرشح بناءً على الولاءات أو المصالح الفورية يساهم في استمرار نفس المشهد السياسي.
فعندما يبني المواطن اختياره على الولاءات العائلية أو الحسابات الضيقة، فإن النتيجة المباشرة هي وصول أشخاص يفتقرون إلى الكفاءة، ومع مرور الوقت يترجم ذلك إلى برلمان ضعيف غير قادر على التشريع أو الرقابة بفعالية. أما حين يختار البعض الانسحاب من العملية برمتها عبر العزوف عن التصويت، فإن أول ما يتأثر هو شرعية المؤسسات المنتخبة، لتتسع تدريجياً هوة عدم الثقة بين المواطن والدولة، ويترسخ الإحساس بأن السياسة لا تُغير شيئاً.
في المقابل، حين يتوجه الناخب إلى صناديق الاقتراع بوعي ومسؤولية، فإنه يمنح الفرصة لمرشحين يقدمون برامج واقعية قابلة للتنفيذ، وهو ما يفتح المجال، على المدى الطويل، أمام سياسات عمومية أكثر نجاعة، وتنمية مجتمعية أعمق، وممارسة ديمقراطية أكثر رسوخا.
غير أن الواقع يكشف عن صورة مغايرة؛ إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة في انتخابات 2021 عتبة 50,35%، وهو رقم يعكس بوضوح أزمة ثقة مزدوجة: أزمة في العملية الانتخابية نفسها، وأخرى في العلاقة بين المواطن والأحزاب السياسية.
3- الإعلام: من المتابعة إلى الشراكة الاستراتيجية
أضحى الإعلام، سواء الرقمي أو الورقي، قوة مؤثرة في تشكيل الرأي العام، لكنه بحاجة إلى تجاوز دوره التقليدي كمراقب ليصبح شريكا استراتيجيا حقيقيا في العملية الانتخابية. فالإعلام لا يقتصر على نقل الأخبار، بل يمكن أن يسهم في تعزيز جودة الديمقراطية من خلال عدة أدوار أساسية: تحليل البرامج الانتخابية وكشف نقاط القوة والضعف فيها، وتقديم توصيات ملموسة تساعد الناخبين على فهم خياراتهم واتخاذ قرارات واعية؛ مرافقة المرشحين في صياغة خطابات تواصلية واضحة وموثوقة؛ وتأطير الرأي العام عبر رفع مستوى وعي المواطنين بمسؤولياتهم تجاه اختيار من يمثلهم؛ وإنتاج دراسات استراتيجية دقيقة تزود الأحزاب ببيانات حقيقية حول أولويات المجتمع واحتياجاته.
وتؤكد الأرقام الحديثة التأثير المتزايد للإعلام الرقمي، خاصة بين الشباب: ففي عام 2022، اعتمد 65% من الناخبين الشباب على المنصات الرقمية لتكوين موقفهم الانتخابي، فيما اتخذ 45% منهم قرار التصويت بناءً على المحتوى الإعلامي الرقمي. هذه الإحصاءات تظهر بوضوح أن الإعلام أصبح شريكًا فاعلا، يمكنه ليس فقط توجيه النقاش العام، بل والمساهمة في رفع جودة المشاركة السياسية، وبالتالي تعزيز فعالية العملية الديمقراطية برمتها.
4- الممارسة الانتخابية بين الطقوس والديمقراطية الحقيقية
على الرغم من كل الإصلاحات التي عرفها المشهد السياسي، فإن المنظومة الانتخابية لا تزال تواجه ثلاثة اختلالات بنيوية عميقة:
1. هيمنة المال والوجاهة الاجتماعية على حساب الكفاءة والجدية.
2. ضعف ثقافة التقييم: الناخب نادراً ما يقيم الأداء الفعلي للمرشح.
3. إفراغ النقاش السياسي من مضامين حقيقية لصالح الخطابات الشخصية والشعارات.
هذه العوامل تجعل الانتخابات أقرب إلى طقس موسمي منه إلى ممارسة ديمقراطية راشدة، مما يقلل من فرص بناء نظام سياسي مستدام.
5- نحو ممارسة سياسية أكثر نضجاً
لتحقيق ديمقراطية فعّالة ومستدامة، لا يكفي الاكتفاء بالوعود الانتخابية أو الخطابات العامة، بل يجب تحويل البرامج الانتخابية إلى أدوات استراتيجية قابلة للقياس، مدعومة بمؤشرات أداء واضحة وجداول زمنية دقيقة، تتيح متابعة نتائج التنفيذ وتقويم السياسات بشكل مستمر. وبالموازاة، ينبغي تمكين المواطن من أدوات تقييم أداء البرلمانيين بشكل دوري وموضوعي، ليصبح مشاركًا فاعلًا في مراقبة عمل ممثليه، وليس مجرد متفرج على النتائج.
في هذا السياق، يلعب الإعلام الرقمي والورقي دورًا محوريًا كشريك استراتيجي، ليس فقط من خلال نقل الأخبار، بل عبر التحليل النقدي، مرافقة المرشحين، وتقديم تقييمات دقيقة للأداء السياسي، إلى جانب إرشاد الرأي العام نحو فهم البرامج والخيارات السياسية بعمق ومسؤولية. كما يتعين إعادة تعريف ثقافة التصويت، من مجرد واجب شكلي يتكرر كل دورة انتخابية، إلى ممارسة استراتيجية تؤثر بشكل مباشر على التنمية المجتمعية وصنع القرار السياسي.
فالانتخابات ليست مجرد أرقام في صناديق الاقتراع، بل هي مرآة للعلاقة بين المواطن والدولة، وقياس لمدى نضج التجربة الديمقراطية. إذا ظلت الأحزاب حبيسة الشعارات، والناخب أسير الولاءات الضيقة، والإعلام محايدًا بلا مبادرة، فإن العملية الديمقراطية ستظل في حلقة مفرغة، لا تقدم جديدًا للمجتمع.
لكن مع التقاء إرادة سياسية جادة، ووعي شعبي متزايد، وإعلام نقدي مسؤول، يمكن للمغرب أن يصبح نموذجًا ديمقراطيًا متجددًا، يجمع بين الطموح الوطني والتحديات الدولية، ويضع المواطن بوضوح في قلب القرار السياسي، باعتباره الشريك الأساسي في صياغة المستقبل الوطني.
الانتخبات في المغرب كما في غيره من الدول ليست مجرد لحظةتصويت،بل مسار متكامل يتطلب وعيا ناضجا من الناخبين وبرامج واقعية ومسؤولة من الاحزاب،فإذا بالغت الأحزاب في الوعود وضعف وعي الناخب، ضاعت الثقة في المؤسسات ،أما إذا توازن الطرفان اصبح الصندوق ادات للتغير الحقيقي.
أشكرك جزيل الشكر أستاذة حنان على هذا التعليق المتبصّر ،
فقد عبّرت بدقّة عن جوهر العملية الديمقراطية التي لا تُختزل في صناديق الاقتراع، بل تتجسّد في وعي المواطن ومسؤوليته تجاه اختياره.
إنّ المغرب يعيش اليوم مرحلة تحتاج إلى ناخبٍ يفكّر قبل أن يُصوّت، وبرامج تُخاطب الواقع لا الشعارات.
فالانتخابات الحقيقية هي التي تُفرز إرادة ناضجة لا انفعالية، ومشاريع قابلة للتنفيذ لا للتزيين.
كما قال أبراهام لنكولن:
“صوت المواطن هو الذي يكتب مستقبل الأمة، وليس الحاكم وحده.”
إنّ الوعي الانتخابي ليس واجبًا فقط، بل فعل تحضّرٍ ومسؤولية وطنية تُسهم في بناء مغربٍ ديمقراطي أكثر توازنًا وعدالة