الاستخبارات العالمية بين التحول التكنولوجي والتحديات الجيوسياسية-المغرب نموذجا

من السرية إلى العلن

لم تعد أجهزة الاستخبارات كيانات غامضة تعمل في الظل فقط، بل غدت لاعباً أساسياً في صياغة التوازنات الدولية. فقد كشف التقرير السنوي لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية لعام 2025 أن نحو 74% من التهديدات المصنفة كـ”أولوية قصوى” ترتبط مباشرة بالأمن السيبراني والإرهاب العابر للحدود [1]. هذا الرقم يعكس حجم التحولات التي جعلت من المعلومة الرقمية رأس مال استراتيجي يعادل قيمة النفط في القرن الماضي.

1. البنية والوظائف: أنماط متعددة للعمل الاستخباري

يمكن تصنيف أدوات العمل الاستخباري إلى:

– HUMINT (المصادر البشرية): عملاء سريون، تجنيد، شبكات اتصال ميدانية.

– SIGINT (اعتراض الاتصالات): مراقبة الاتصالات الهاتفية والإلكترونية.

– GEOINT (الصور والخرائط): تحليل صور الأقمار الصناعية.

– OSINT (المصادر المفتوحة): استغلال الإعلام وشبكات التواصل.

– FININT (التتبع المالي): رصد حركة الأموال وغسيلها.

التكامل بين هذه الأدوات بات ضرورة لا خياراً، وهو ما يفسّر اعتماد معظم الدول على مقاربة “الاستخبارات المندمجة”.

2. القوى الكبرى: هرم الاستخبارات العالمي

– الولايات المتحدة: تتصدر المشهد بفضل شبكة تشمل الـCIA وNSA وDIA. بلغت موازنة مجتمع الاستخبارات الأميركي سنة 2024 أكثر من 92 مليار دولار [2].

– تحالف “Five Eyes”: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، نيوزيلندا. يُعتبر أقوى إطار لتبادل المعلومات، ويُعالج يومياً ملايين البيانات المشتركة [3].

– روسيا والصين: اعتمدتا منذ سنوات على المزج بين التجسس التقليدي والحرب السيبرانية. الصين وظفت ما يفوق 50 ألف عنصر في الاستخبارات الرقمية [4].

– إسرائيل: عبر الموساد والشاباك، تتميز بتكتيكات العمليات الخارجية الدقيقة وقدرات تقنية عالية، خصوصاً في الشرق الأوسط.

3. المغرب: فاعل صاعد في إفريقيا والعالم العربي

في المشهد الإقليمي، يبرز المغرب كأحد النماذج المتقدمة.

ساهمت أجهزته (DGST وDGED) في تفكيك أكثر من 200 خلية إرهابية منذ 2002 [5].

تعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ملفات حساسة بعد أحداث 11 سبتمبر.

انخرط بقوة في إفريقيا، خصوصاً منطقة الساحل، حيث يُمثل الإرهاب والجريمة المنظمة تهديداً مشتركاً.

وطنيّاً، اعتمد المغرب سياسة استباقية، إذ يواكب الأمن الداخلي بالتحول الرقمي، ما جعل الرباط شريكاً موثوقاً في مبادرات الأمن السيبراني الدولية [6].

4. الذكاء الاصطناعي: السلاح ذو الحدّين

بحسب تقرير CrowdStrike لعام 2025، فإن 63% من الهجمات السيبرانية المتقدمة خلال 2024–2025 استخدمت أدوات الذكاء الاصطناعي [7].

تُوظف الأجهزة الاستخباراتية AI لتحليل البيانات الضخمة: الـNSA مثلاً تعالج ما يقارب 30 بيتابايت يومياً [8].

في المقابل، يوظف الخصوم الذكاء الاصطناعي في تطوير برمجيات خبيثة ورسائل تصيّد متطورة.

هذا التوازن الدقيق بين الاستخدام الدفاعي والهجومي للـAI سيشكل أبرز معركة استخباراتية في العقد القادم.

5. تحديات الحوكمة والرقابة

تطرح توسع صلاحيات الأجهزة أسئلة جوهرية:

كيف نضمن حماية الأمن القومي دون المساس بالحريات الفردية؟

– في بريطانيا وأستراليا، توجد آليات رقابة برلمانية وقضائية صارمة [9].

– في المغرب، ورغم التحديات، فقد نصّ دستور 2011 على حماية الحقوق الأساسية، ما دفع الأجهزة للعمل في إطار “الأمن الوقائي” المتوازن مع مقتضيات القانون [10].

6. المستقبل: ما وراء الأمن العسكري

مع تفاقم التغير المناخي، وانتشار الأوبئة، والتنافس على الموارد، ستتحول الاستخبارات إلى:

– أداة لمراقبة الأزمات الصحية (كما في جائحة كورونا).

– عنصر رئيسي في تأمين سلاسل الإمداد الغذائية والطاقية.

– وسيط في النزاعات الاقتصادية والسياسية العالمية.

الاستخبارات كمرآة الدولة الحديثة

إن أجهزة الاستخبارات اليوم ليست فقط أدوات لحماية الحدود أو ملاحقة الإرهابيين، بل باتت مرآة تعكس قدرة الدولة على التكيف مع عالم سريع التحولات.

وإذا كان الغرب يهيمن على البنية التقنية، فإن دول الجنوب، وفي مقدمتها المغرب، تقدّم نموذجاً بديلاً يقوم على الأمن الوقائي، والشراكة الدولية، واحترام تدريجي للشفافية. وهو ما قد يجعل من التجربة المغربية حالة يُمكن أن تُستلهم قارياً ودولياً في السنوات المقبلة.

المراجع

[1] ODNI, Annual Threat Assessment, 2025.

[2] US Government Budget Report on Intelligence Spending, 2024.

[3] BBC, “The Five Eyes Alliance Explained”, 2024.

[4] CSIS Report on Chinese Cyber Capabilities, 2023.

[5] وزارة الداخلية المغربية، بلاغات رسمية حول مكافحة الإرهاب، 2002–2023.

[6] الاتحاد الأوروبي – تقرير التعاون الأمني مع المغرب، 2022.

[7] CrowdStrike, Global Threat Report, 2025.

[8] Washington Post, “Inside the NSA’s Data Collection”, 2024.

[9] Australian Intelligence Oversight Committee, Annual Review 2023.

[10] الدستور المغربي 2011، الفصل 24–25.

Comments (0)
Add Comment