يشهد النظام القانوني المغربي تحوّلًا نوعيًا في فلسفة العدالة الجنائية، حيث لم يعد العقاب غاية في ذاته، بل وسيلة لإصلاح السلوك وحماية النسيج الاجتماعي. هذا التحول تجسّد بوضوح في إدراج العقوبات البديلة ضمن مشروع القانون الجنائي الجديد (1)، في إطار رؤية إصلاحية تجعل من الإنسان محور السياسات العمومية، وتستلهم روح الدستور المغربي لسنة 2011 الذي أرسى مبدأ صون الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية (2).
لقد جاء هذا التوجه انسجامًا مع المعايير الدولية الحديثة، خصوصًا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 45/110 لسنة 1990 بشأن بدائل السجن (3)، الذي دعا الدول إلى تقليص اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة، واعتماد بدائل تهدف إلى الإصلاح وإعادة الإدماج بدل العزل والإقصاء.
1. الإطار القانوني والمؤسساتي للعقوبات البديلة
1.1. الإطار التشريعي
نصّ مشروع القانون الجنائي المغربي (2023) على إدراج عقوبات بديلة تُطبّق على المخالفات والجنح البسيطة، وتشمل:
1. العمل لأجل المنفعة العامة؛
2. الغرامة اليومية؛
3. تقييد بعض الحقوق أو الالتزامات؛
4. المراقبة الإلكترونية (1).
وجاء في الفصل 35 مكرر من المشروع أن الهدف هو “إعادة إدماج الجاني في المجتمع مع الحفاظ على الأمن العام ومصالح الضحية”، في توازن دقيق بين الزجر والإنسانية.
1.2. المرجعية الدستورية والحقوقية
ترتكز هذه المقاربة على الفصل 23 من دستور المملكة المغربية (2011) الذي يؤكد أن “كل شخص معتقل يجب أن يُعامل بما يحفظ كرامته الإنسانية” (2).
كما تتناغم هذه الرؤية مع مقتضيات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، الذي نصّ في مادته العاشرة على أن “غايات النظام العقابي يجب أن تكون الإصلاح وإعادة التأهيل الاجتماعي للمحكوم عليهم” (4).
2. الفلسفة الإصلاحية للعقوبات البديلة
2.1. من الردع إلى الإدماج
تأتي العقوبات البديلة كتعبير عن قناعة مفادها أن السجن لا يُصلح دائمًا، بل قد يتحول إلى فضاء لإعادة إنتاج الجريمة، بسبب الوصم الاجتماعي أو انقطاع الروابط الأسرية والمهنية.
فمن خلال العمل لأجل المنفعة العامة أو أداء غرامة يومية، يتحمّل المحكوم عليه مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية دون أن يُقصى من محيطه الطبيعي، وهو ما يُجسّد روح العدالة التصالحية (Justice Restaurative)، التي تجمع بين حفظ النظام العام وإعادة بناء الثقة بين الفرد والمجتمع.
2.2. العدالة كإصلاح لا كقصاص
لم تعد العدالة الجنائية في المفهوم الحديث مجرّد ردّ على الفعل الإجرامي، بل هي مسار لإعادة التوازن بين المذنب والضحية والمجتمع.
وفي هذا السياق، تبرز العقوبات البديلة كآلية تربوية تهدف إلى معالجة الجذور الاجتماعية والنفسية للسلوك الإجرامي، بدل الاقتصار على العقاب الجسدي أو السالب للحرية.
3. المردودية الاجتماعية والاقتصادية
تشير تقارير مجلس أوروبا (2021) إلى أن الدول التي اعتمدت العقوبات البديلة عرفت انخفاضًا في معدلات العود إلى الجريمة بنسبة تتراوح بين 25% و40% (5).
كما تراجعت تكاليف الاعتقال بما يقارب 60% مقارنة بالعقوبات السجنية التقليدية.
وفي المغرب، أظهرت تجارب محاكم الرباط والدار البيضاء النموذجية (2024)، وفقًا لتقرير رئاسة النيابة العامة، أن نسبة الالتزام بالعمل لأجل المنفعة العامة تجاوزت 82% من المحكومين، مع انخفاض ملحوظ في حالات العود (6).
وهذا يُبرز أن العقوبات البديلة ليست فقط أكثر إنسانية، بل أيضًا أكثر فعالية وكفاءة في الحفاظ على الأمن الاجتماعي.
4. التحديات والآفاق المستقبلية
4.1. التحديات
رغم نجاح التجارب الأولية، تواجه العقوبات البديلة في المغرب عدة إكراهات:
محدودية البنية التحتية للمراقبة المجتمعية؛
ضعف تكوين الأطر القضائية والاجتماعية المكلفة بالتنفيذ؛
الحاجة إلى شراكات مؤسساتية بين القضاء والجماعات المحلية والمجتمع المدني.
4.2. الآفاق المستقبلية
يتجه المغرب إلى توسيع نطاق تطبيق هذه العقوبات لتشمل الجرائم البيئية والاقتصادية الخفيفة، مع تطوير آليات المراقبة الإلكترونية باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
كما تعمل وزارة العدل على إحداث مرصد وطني لتقييم أثر العقوبات البديلة (7)، بما يضمن فعالية التنفيذ ومطابقته للمعايير الحقوقية الدولية.
تشكل العقوبات البديلة خطوة إصلاحية جريئة نحو عدالة مغربية أكثر إنسانية وفعالية. إنها ثورة هادئة تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والقانون، وتُثبت أن الأمن لا يتحقق بالعقاب وحده، بل بالإدماج، وأن الكرامة الإنسانية ليست امتيازًا بل حقًّا أصيلًا.
إن مستقبل العدالة في المغرب يمرّ عبر هذه الرؤية المتوازنة، التي تُزاوج بين الصرامة القانونية والحس الإنساني، وتُجسّد طموح دولة تسعى لأن تكون نموذجًا في العالم العربي في تحويل العقوبة إلى فرصة للإصلاح لا إلى نهاية للحياة الاجتماعية.
المراجع:
(1) مشروع القانون الجنائي المغربي، وزارة العدل، نسخة 2023.
(2) دستور المملكة المغربية، 2011، الفصل 23.
(3) قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 45/110 بشأن بدائل السجن، 1990.
(4) العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الأمم المتحدة، 1966، المادة 10.
(5) تقرير مجلس أوروبا حول العقوبات غير السالبة للحرية، ستراسبورغ، 2021.
(6) تقرير رئاسة النيابة العامة، الرباط، 2024.
(7) وزارة العدل، مشروع المرصد الوطني للعقوبات البديلة، الرباط، 2025.