المغرب 2024: اقتصاد بين المرونة والاختناق البنيوي

المغرب 2024: اقتصاد بين المرونة والاختناق البنيوي

حين تخفي الأرقام نصف الحقيقة

قدّم بنك المغرب في تقريره السنوي لسنة 2024 لوحة تبدو للوهلة الأولى مطمئنة: تضخّم متراجع إلى أقل من 1%، نمو اقتصادي في حدود 3.8%، واحتياطيات من العملة الصعبة بلغت 375 مليار درهم تكفي لتغطية أكثر من خمسة أشهر من الواردات (بنك المغرب، 2024). لكن، خلف هذه الأرقام البراقة، يطرح سؤال ملحّ: هل يكفي الاستقرار الماكروي كي يتحول الاقتصاد المغربي إلى اقتصاد منتج للقيمة والمعرفة؟

الحقيقة أن المغرب يقف اليوم عند مفترق طرق. فمن جهة، نجح في امتصاص صدمات الجائحة والتضخم العالمي والجفاف المتكرر (البنك الدولي، 2024). ومن جهة أخرى، لا يزال أسير قيود هيكلية: بطالة بنيوية مرتفعة، إنتاجية ضعيفة، واعتماد مفرط على قطاعات ظرفية كالفلاحة والتحويلات.

1. نمو اقتصادي… هش أكثر مما يبدو

حقّق الاقتصاد المغربي معدل نمو بلغ 3.8% في 2024 (بنك المغرب، 2024)، وهي نسبة جيدة قياسا بالسياق العالمي المضطرب. لكن عند التدقيق، يتضح أن هذا النمو هش وغير متوازن. فالقطاعات غير الزراعية (الصناعة والخدمات) حققت أداء لافتا، بينما تراجع القطاع الزراعي بنحو -4.8% بفعل الجفاف.

هذا التفاوت يكرّس معضلة قديمة: ارتباط النمو المغربي بموسم المطر أكثر من ارتباطه بالابتكار والإنتاج المستدام. في المقابل، دول كألمانيا وفرنسا حققت نموا ضعيفا (0.3% و0.9%) لكن على قاعدة أكثر صلابة وأقل تقلبا (صندوق النقد الدولي، 2024).

2. التضخّم: إنجاز ظرفي لا ضمانة لاستمراره

هبط التضخم إلى 0.9% بعد أن تجاوز 6% في 2022-2023 (بنك المغرب، 2024). صحيح أن هذا مكسب مهم أتاح للبنك المركزي خفض سعر الفائدة إلى 2.5%، لكن جذوره ليست كلها محلية. فقد ساهمت عوامل خارجية مثل تراجع أسعار الطاقة والمواد الأولية (البنك الدولي، 2024) أكثر من الإصلاحات الداخلية.

السؤال المحوري هو: ماذا لو ارتفعت أسعار الغذاء أو النفط مجددا؟ هنا تتضح هشاشة الإنجاز، إذ يظل المغرب معرّضا لتقلبات الأسواق العالمية.

3. سوق العمل: البطالة كمرآة لا ترحم

ورغم تحسن النمو، ارتفعت البطالة إلى 13.3%، أي ضعف المتوسط الأوروبي تقريبًا (بنك المغرب، 2024؛ Eurostat، 2023). والأسوأ أن غالبية الوظائف الجديدة تظل هشّة، غير مهيكلة، ومنخفضة القيمة المضافة.

في ألمانيا مثلًا، يضمن نظام التكوين المهني المزدوج مواءمة دقيقة بين التعليم وسوق العمل، ما يبقي البطالة عند 3.4% فقط (Eurostat، 2023). أما في المغرب، فإن الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجيات السوق تزيد من معضلة بطالة الشباب والنساء، وتجعل النمو غير شامل اجتماعيًا.

4. الميزان الخارجي: استقرار بفضل “شبكات أمان” لا بفضل تنويع

من النقاط المضيئة أن عجز الحساب الجاري تراجع إلى 1.2%، وارتفعت الاحتياطيات إلى مستوى مريح (بنك المغرب، 2024). لكن هذا التوازن لم يتحقق بفضل طفرة صادرات صناعية أو اختراق تكنولوجي، بل بفعل السياحة (112.5 مليار درهم) وتحويلات الجالية (119 مليار درهم) (صندوق النقد الدولي، 2024).

هذه القنوات تشكّل صمامات أمان مهمة، لكنها أيضا تكشف أن الاقتصاد لم يبنِ بعد قاعدة إنتاجية صلبة قادرة على المنافسة عالميا.

5. مقارنة مع الاقتصادات المتقدمة: الفجوة المعرفية

الفارق بين المغرب والدول المتقدمة لا يُقاس فقط بالنمو، بل بجودته.

– البحث والتطوير: المغرب لا ينفق سوى أقل من 1% من ناتجه على البحث العلمي، مقابل 2.22% في الاتحاد الأوروبي و2.7% في OECD (Eurostat، 2023؛ WIPO، 2023).

– جودة الاستثمار: رغم أن نسبة الاستثمار مرتفعة (30.1% من الناتج)، فإن مردوده ضعيف لغياب توجيهه نحو الابتكار ورأس المال البشري (البنك الدولي، 2024).

– سلاسل القيمة: في أوروبا، يتغذى كل استثمار من منظومة متكاملة من الجامعات ومراكز البحث، بينما يظل الاستثمار في المغرب في أغلبه “إسمنتيا” أكثر منه معرفيًا (WIPO، 2023).

– النتيجة واضحة: المغرب ليس متأخرًا في كمية الاستثمار، بل في نوعيته وقدرته على توليد إنتاجية وفرص عمل عالية المهارات.

6. التقرير النقدي لبنك المغرب: نقاط القوة والثغرات

1- ما يُحسب للتقرير:

– شفافية في تشخيص البطالة الهيكلية.

– رصد دقيق للميزان الخارجي.

– مرونة في السياسة النقدية (بنك المغرب، 2024).

2- ما يؤخذ عليه:

– غياب خريطة طريق لتحفيز الاستثمار المحلي.

– معالجة سطحية لمخاطر المناخ رغم خطورتها على المالية العامة (صندوق النقد الدولي، 2024).

– ضعف التركيز على سياسات الابتكار كمدخل للإنتاجية.

7. خارطة طريق: من الاستقرار إلى التحوّل

لتحويل الاستقرار الماكروي إلى تنمية مستدامة، يحتاج المغرب إلى قفزة معرفية. الأولويات:

1. رفع إنفاق البحث والتطوير إلى 1.5% من الناتج خلال ثلاث سنوات (WIPO، 2023).

2. مضاعفة المحتوى المحلي في السيارات والطاقة المتجددة.

3. إصلاح التكوين المهني والتعليم لملاءمة الاقتصاد الرقمي والأخضر.

4. تسريع تمويل المناخ عبر سندات خضراء وأدوات تحوط (البنك الدولي، 2024).

5. تحفيز الاستثمار الخاص الموجه نحو المقاولات الناشئة.

الاستقرار بداية… وليس نهاية

عام 2024 كشف عن اقتصاد مغربي يتمتع بمرونة معتبرة، لكنه لا يزال أسير هشاشته البنيوية. وإذا كان الاستقرار شرطًا ضروريًا، فإنه ليس كافيًا لتحقيق التنمية.

التحدي في السنوات المقبلة هو توطين المعرفة وبناء منظومة ابتكار تجعل من كل درهم مستثمر قيمة مضافة وفرص عمل نوعية.

فالمغرب أمام خيارين: إما أن يظل اقتصادا مرنا لكنه هش، أو أن يتحول إلى اقتصاد صاعد بحقّ عبر قفزة معرفية جريئة.

 

المراجع

– بنك المغرب، التقرير السنوي 2024.

– صندوق النقد الدولي، تقرير المادة الرابعة حول المغرب 2024.

– البنك الدولي، تحديث الاقتصاد المغربي، صيف 2024.

– Eurostat، R&D expenditure EU 2023.

– WIPO، Global Innovation Index 2023.

Comments (0)
Add Comment