الهند تدخل سباق صناعة الرقائق..التفاصيل

ترسم الهند ملامح جديدة لطموحاتها الاقتصادية في واحدة من أكثر الصناعات حساسية في القرن الحادي والعشرين؛ فبينما يشهد العالم سباقاً محتدماً نحو تعزيز الأمن التكنولوجي وتقليل

الاعتماد على الخارج، تضع نيودلهي نفسها على خط الانطلاق في صناعة الرقائق الإلكترونية التي تُوصف اليوم بأنها “النفط الجديد”.

تسعى القوى الكبرى منذ سنوات إلى تأمين حصتها من هذه الصناعة الحيوية، خصوصاً بعد الأزمات التي ضربت سلاسل الإمداد العالمية، وتسببت في شلل قطاعات كبرى من الهواتف الذكية

إلى السيارات الكهربائية. ومن هنا، اكتسبت الرقائق مكانة استراتيجية تتجاوز البعد الاقتصادي لتصل إلى صميم الأمن القومي للدول.

تظهر التحولات الدولية أن موازين القوة امتدت إلى التكنولوجيا الدقيقة التي باتت تحدد موقع الدول على خريطة النفوذ العالمي. وفي هذا السياق، بدأت الدول الصاعدة تبحث عن دور أكبر في

هذه الصناعة، محاولة كسر احتكار قلة من اللاعبين التقليديين.

ووفق تقرير لشبكة “سي إن بي سي” الأميركية، فإن:

الهند تريد أن تصبح من كبرى الدول في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية على مستوى العالم، ولكن الصعوبات كبيرة: فالمنافسة شرسة، والهند دخلت متأخرة في السباق لتصنيع الرقائق الأكثر

تقدماً.

في العام 2022، عندما فرضت الولايات المتحدة قيوداً على صادراتها من رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين بهدف الحد من قدرة بكين على الوصول إلى التكنولوجيا المتطورة، بدأ

سباق عالمي نحو الاعتماد على الذات في مجال أشباه الموصلات.

بالنسبة للهند، فقد قدم ذلك فرصة؛ إذ تريد البلاد تقليل الاعتماد على الواردات، وتأمين الرقائق للقطاعات الاستراتيجية، والاستحواذ على حصة أكبر من سوق الإلكترونيات العالمية التي تتحول

بعيداً عن الصين.

وتُعدّ الهند من أكبر مستهلكي الإلكترونيات في العالم، إلا أنها تفتقر إلى صناعة محلية للرقائق الإلكترونية، ويظل دورها محدوداً في سلسلة التوريد العالمية.

وتهدف مبادرة نيودلهي “أشباه الموصلات” إلى تغيير هذا الوضع.

ويصف التقرير طموح الهند بـ “الجريء”، ذلك أنها تسعى إلى إنشاء سلسلة توريد متكاملة، من التصميم إلى التصنيع والاختبار والتغليف، على أراضيها.

وحتى هذا الشهر، وافقت الدولة على 10 مشاريع لأشباه الموصلات باستثمارات إجمالية قدرها 1.6 تريليون روبية (18.2 مليار دولار).

وتشمل هذه المشاريع مصنعين لتصنيع أشباه الموصلات، ومصانع متعددة للاختبار والتعبئة.

وتتمتع الهند أيضاً بمجموعة من المواهب الهندسية التي تعمل بالفعل في شركات تصميم الرقائق العالمية.

ولكن التقدم المحرز حتى الآن كان غير متكافئ، ولا تكفي الاستثمارات أو مجموعة المواهب لجعل طموحات الهند في مجال الرقائق حقيقة واقعة، كما يقول الخبراء.

تأسيس صناعة وطنية متكاملة

من جانبه، يقول أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، الدكتور حسين العمري، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:

الهدف من الاستثمارات الهندية هو تأسيس صناعة وطنية متكاملة للرقائق الإلكترونية، وتقليل اعتماد الهند على الاستيراد، ووضعها على خريطة المنافسة العالمية في واحدة من أكثر الصناعات

حساسية وأهمية في القرن الحادي والعشرين.

رهان الهند بمليارات الدولارات على صناعة الرقائق ليس مجرد مشروع اقتصادي، إنما هو تحول استراتيجي شامل يستهدف تعزيز الأمن القومي، وتحقيق النمو الاقتصادي، وتثبيت موقع الهند

بين القوى الكبرى في الاقتصاد الرقمي.

النجاح لن يكون سريعاً، وربما يستغرق عقداً أو أكثر من الزمن، لكن مجرد دخول نيودلهي إلى هذا السباق يعكس إرادة سياسية قوية ورؤية مستقبلية ترى في التكنولوجيا مفتاحًا للسيادة

الوطنية.

وتُعد الرقائق أو أشباه الموصلات القلب النابض للتكنولوجيا الحديثة؛ فهي تدخل في كل شيء تقريباً: الهواتف الذكية والحواسيب والسيارات الكهربائية والمعدات الطبية، إضافة غلى الأجهزة

المنزلية والأنظمة الدفاعية.

وفي ظل التحول الرقمي والسباق نحو الذكاء الاصطناعي، أصبح يُنظر إلى هذه الصناعة باعتبارها النفط الجديد الذي يحدد موقع الدول في خريطة القوى الاقتصادية والتكنولوجية.

ويقول العمري إن الهند، التي تعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد لتلبية احتياجاتها من الرقائق، تجد نفسها معرضة للمخاطر في حال تعطل سلاسل الإمداد العالمية أو تصاعد النزاعات

التجارية والجيوسياسية.

ومن هنا، جاء الرهان الكبير على بناء صناعة محلية توفر لها قدرًا من الأمن التقني والاستقلال الاستراتيجي.

دوافع الاستثمار الضخم

ويشير إلى أن هناك ثلاثة دوافع رئيسية وراء هذا القرار:

الأمن القومي: الصناعات الدفاعية والفضائية في الهند تحتاج إلى رقائق متقدمة، ولا يمكن الاعتماد بشكل دائم على الخارج، خصوصاً في ظل التوترات الإقليمية مع الصين وباكستان.

النمو الاقتصادي وفرص العمل: بناء مصانع الرقائق وسلاسل الإمداد المرتبطة بها يعني خلق عشرات الآلاف من الوظائف عالية المهارة، وتنشيط البحث العلمي والتطوير.

المكانة العالمية: تسعى الهند إلى أن تصبح لاعبًا محوريًا في النظام التكنولوجي العالمي، على غرار تايوان وكوريا الجنوبية، لتتحول من مجرد سوق استهلاكي ضخم إلى مركز إنتاج مؤثر.

ورغم الطموح الكبير، تواجه الهند تحديات متعددة، أهمها:

الفجوة التقنية: بينما تركز الهند على تصنيع الرقائق بمقاييس متوسطة (28–65 نانومتر)، يعمل المنافسون مثل تايوان وكوريا الجنوبية على رقائق متقدمة جداً (3 نانومتر وأقل).

تقليص هذه الفجوة يتطلب سنوات من الاستثمار الضخم ونقل المعرفة.

سلسلة التوريد المعقدة: المعدات المتطورة لتصنيع الرقائق تحتكرها شركات قليلة مثل ASML الهولندية وApplied Materials الأميركية، وغالباً ما تكون خاضعة لقيود تصدير مرتبطة بالسياسة.

البنية التحتية: تشغيل مصانع الرقائق يحتاج إلى كهرباء مستقرة، ومياه فائقة النقاء، وبيئات معقمة بدرجة كبيرة.

هذه المتطلبات تمثل تحدياً لوجستياً في بيئة نامية كالهند.

رأس المال البشري: رغم وجود قاعدة قوية من مهندسي البرمجيات والمصممين، إلا أن تشغيل المصانع يتطلب خبرات متخصصة في علوم المواد، والهندسة الكيميائية، والإلكترونيات الدقيقة،

وهو ما يحتاج إلى تدريب طويل الأمد.

فرص النجاح

ورغم الصعوبات، تملك الهند فرصاً واقعية للنجاح في قطاعات محددة، منها الرقائق المتوسطة، إذ تُستخدم هذه الرقائق في السيارات، الأجهزة المنزلية، والبنية التحتية الصناعية.

كما أن الطلب العالمي عليها يتزايد، ما يمنح الهند نافذة للدخول والمنافسة.

ويشير العمري إلى أن أثر هذه المبادرة لا يقتصر على الاقتصاد الهندي، بل يمتد إلى الساحة الدولية، منبهاً إلى أن دخول الهند بقوة إلى سوق الرقائق سيجعلها أكثر استقلالًا في قراراتها

التكنولوجية، ويمنحها نفوذاً إضافياً في تحالفاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، التي تبحث جميعها عن بدائل لسلاسل الإمداد المعتمدة على الصين.

كما قد يشجع هذا التوجه باقي الاقتصادات الصاعدة في آسيا والشرق الأوسط على إطلاق مبادرات مشابهة لبناء سلاسل قيمة محلية في قطاع الرقائق، مما يسرّع إعادة تشكيل خريطة

الإنتاج العالمي.

أساس متين

ونقل تقرير لـ “بيزنس استاندرد” عن هانز يواكيم نيومان، وهو أحد كبار المديرين التنفيذيين في شركة ميرك إلكترونيكس، وهي شركة ألمانية للعلوم والتكنولوجيا، في نيودلهي، قوله إن

الصناعات الهندية و”نظام التعليم من الطراز العالمي” وتجمع المواهب يمنح البلاد أفضلية وسط “عدم اليقين العالمي”.

ويضيف: “الآن هو الوقت المناسب تماماً للهند”، مبرزاً “دمج الجودة والابتكار لتحقيق التميز في التصنيع”.

وتابع: “لدينا أساس متين، وصناعات ضخمة، وتعليم عالمي المستوى، ومواهب واعدة.

هذا هو الأساس الذي يصعب على الدول الأخرى تقليده، وهو أمر رائع. لدينا الزخم المناسب في ظلّ حالة عدم اليقين العالمية”.

ووقعت شركة تاتا إلكترونيكس، الشركة المصنعة للإلكترونيات وأشباه الموصلات، وشركة ميرك مذكرة تفاهم للتعاون الاستراتيجي لتطوير القدرات بشكل مشترك في مواد أشباه الموصلات

والبنية الأساسية لتصنيع أشباه الموصلات وتوزيع المواد الكيميائية والغاز المتخصصة في الهند.

رهان الـ 18 مليار دولار

وإلى ذلك، يقول أستاذ الاقتصاد الدولي، الدكتور علي الإدريسي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن الهند بخطوتها الأخيرة وضعت نفسها بقوة في قلب سباق عالمي شديد السخونة، بعدما

أعلنت عن رهان ضخم بقيمة 18 مليار دولار.

ويؤكد أن هذا الإعلان لا يمكن النظر إليه كمجرد استثمار صناعي جديد، بل هو تحول استراتيجي يعكس إدراك نيودلهي لأهمية صناعة الرقائق باعتبارها العمود الفقري لكل التكنولوجيا الحديثة،

من الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية إلى أنظمة الدفاع والأقمار الصناعية.

ويضيف أن العالم خلال السنوات الأخيرة اكتشف هشاشة سلاسل الإمداد الخاصة بالرقائق، خصوصاً مع جائحة كورونا وتصاعد التوترات بين الصين والولايات المتحدة، وهو ما جعل الدول الكبرى

تعيد التفكير في أمنها التكنولوجي.

ويتابع: التحرك الهندي يأتي ليس فقط لتقليل اعتمادها على الاستيراد من تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، ولكن أيضاً لفرض نفسها كبديل محتمل في السوق العالمية، مستفيدة من

ثقلها السكاني، ووفرة المهندسين، وسعي الغرب لإيجاد شركاء جدد بعيدًا عن الصين.

كما يوضح أن الاستثمار الضخم يفتح الباب أمام تحولات اقتصادية أوسع؛ فهو يعني خلق عشرات الآلاف من فرص العمل عالية المهارة، وتدريب جيل جديد من الكفاءات الهندية في قطاع بالغ

الحساسية والتقدم.

ويشير إلى أن المشروع يحمل بعداً استثمارياً خارجيًا، إذ تسعى نيودلهي إلى جذب شركات كبرى لتأسيس مصانع وشراكات محلية، وهو ما سيضع الهند في موقع المنافس المباشر لتايوان.

ويؤكد الإدريسي أن المشروع يحمل أيضاً بُعداً جيوسياسياً لا يقل أهمية، إذ يجعل الهند أكثر استقلالية في قراراتها الاستراتيجية، ويعزز من موقعها في مواجهة الصين، كما يمنحها أوراق قوة

إضافية في علاقتها مع الولايات المتحدة وأوروبا.

ويختم حديثه بالقول إن رهان الـ 18 مليار دولار ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل هو إعلان دخول الهند عصر جديد من التنافس التكنولوجي العالمي، وسعيها للتحول من دولة مستهلكة

للتكنولوجيا إلى دولة منتجة ومصدّرة لها، بما يغير مكانتها في خريطة الاقتصاد الدولي خلال العقد المقبل.

أشباه_الموصلاتالاقتصاد_العالميالذكاء_الاصطناعيالرقائق_الإلكترونيةتايوانكوريا_الجنوبية
Comments (0)
Add Comment