في كل مرحلة من تاريخ الأمم، تظهر لحظات تتجاوز حدود الحدث لتُصبح مرآة لعمق المجتمع. ما تعرفه بلادنا اليوم من تفاعلاتٍ شبابية متصاعدة ليس مجرد موجة غضب عابرة، بل تحوّل اجتماعي حقيقي، يعكس وعي جيلٍ جديد وقلق دولةٍ مسؤولة في آنٍ واحد.
جيلٌ يريد أن يُسمَع، ودولةٌ تسعى أن تحافظ على الأمن دون أن تُفرّط في كرامة الإنسان. وبين الاثنين يقف رجل الأمن المغربي في أصعب موقع يمكن أن يُوجد فيه مواطن: بين الواجب والإدراك، بين النظام والعاطفة، بين الوطن والناس.
1- رجال الأمن… بين الصورة والواقع
كثيرون يتحدثون عن الاحتجاجات من خلف الشاشات، لكن قلة فقط تعرف ما تعنيه “الخدمة في الميدان”.
رجل الأمن لا يملك رفاهية الرأي ولا مساحة التعبير؛ كل ما لديه هو القسم الذي أدّاه في أول يوم له بالزي الرسمي: حماية الوطن والمواطن.
إنه أول من يواجه الغضب، وآخر من ينام، وغالبًا ما يُدان قبل أن يُستمع إليه.
لكن الحقيقة البسيطة التي يتجاهلها كثيرون هي أن هذا الرجل لا يقف ضد الشعب، بل في صف الدولة التي هي ملك للجميع.
هو ليس “أداة قمع” كما يصوّره بعض المتحمسين، بل درعٌ واقٍ للمجتمع من الانفلات، ورمزٌ لهيبة القانون التي بدونها لا وجود لحريةٍ أو كرامة.
2- جيل جديد بلغة جديدة
من جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن الجيل الجديد، جيل «زد»، يُعبّر عن نفسه بطريقة غير مألوفة.
هو جيل لم يعد ينتظر منابر الأحزاب أو بيانات النقابات، بل يصنع خطابه على “تويتر” و“تيك توك”.
جيلٌ ذكي، متصل بالعالم، لكنه أيضًا هشّ أمام الموجة الرقمية التي تخلط بين المعلومة والإثارة، بين الوعي والتحريض.
مشكلته ليست في مطالبه، بل في غياب الوسائط التي تُترجم تلك المطالب إلى مشروع جماعي.
إنه جيل يحتاج إلى احتضان، لا إلى مواجهة؛ إلى من يُصغي إليه بعقل الدولة لا بردّ الفعل.
3- الدولة بين الإنصات والهيبة
المغرب دولة عمرها قرون، تعرف متى تصبر ومتى تحسم.
لكن قوتها لم تكن يومًا في الشدة، بل في القدرة على الإصغاء دون أن تفقد احترامها.
لهذا، فإنّ التعامل مع التحركات الشبابية لا ينبغي أن يكون فقط أمنيًا، بل أيضًا ثقافيًا وتواصليًا واقتصاديًا.
فكل صرخة في الشارع هي في عمقها طلب للانتماء، لا تمرّد على الوطن.
ومن واجب المؤسسات أن تُحوّل الغضب إلى حوار، والاحتجاج إلى اقتراح، لأن الغد لا يُبنى بالعصي ولا بالشعارات، بل بالثقة.
4- الإعلام والعدالة في السرد
الإعلام بدوره يتحمّل مسؤولية كبرى.
حين ينقل مشهدًا مبتورًا لرجل أمن يُمسك بمحتج، ولا يروي المشهد الذي سبقه، فإنه لا يقدّم الحقيقة بل يُشوّهها.
العدالة لا تكون في المحاكم فقط، بل أيضًا في طريقة سردنا للأحداث.
ومن الظلم أن نُحمّل رجال الأمن وزر السياسة، أو نحاكمهم على أخطاء ليست من صنعهم.
إنّ حماية الوطن عملٌ جماعي، والإنصاف هو أول شروط الإصلاح.
5- من المواجهة إلى التفاهم
لن يكون الحلّ في إخماد الصوت، ولا في ترك الشارع يقرر وحده، بل في خلق توازن جديد بين الحرية والمسؤولية.
فرجال الأمن ليسوا خصومًا، كما أن الشباب ليسوا أعداء.
الطرفان أبناء وطنٍ واحد، يختلفان في الأدوار لا في الانتماء.
وإذا كان هذا الجيل قد خرج إلى الشارع ليقول “اسمعوني”، فواجب الدولة أن تُجيبه: “نسمعك، ولكن في إطار القانون”.
تلك هي المعادلة الصعبة التي تحفظ الكرامة وتُصون الأمن في آنٍ واحد، وتجعل من المغرب نموذجًا في الرزانة السياسية والإنصات المسؤول.